إبرة التحقيق الجنائي اللبناني في كومة ربع تريليون دولار!

  • 2020-11-30
  • 13:00

إبرة التحقيق الجنائي اللبناني في كومة ربع تريليون دولار!

  • أحمد عياش

إنقشع يوم الجمعة الماضي غبار معركة "التحقيق الجنائي" في لبنان من خلال قرار صادر عن مجلس النواب الذي دعا الى "إخضاع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة بالتوازي للتدقيق الجنائي من دون أي عائق او تذرع بسرية مصرفية او خلافها".  وفي اليوم التالي غرّد المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان بان كوبيتش على القرار النيابي على حسابه على "تويتر" قائلاً: "إشارة سياسية قوية من مجلس النواب، تؤيد إجراء تحقيق جنائي واسع النطاق، القيمة الحقيقية لأي شيء تظهر بعد تجربته".

 

قد يهمك:
البنك المركزي السعودي "ساما" يحتوي آثار الجائحة:
دعم الوظائف ومنشآت القطاع الخاص

 

لماذا القول بأن موضوع "التحقيق الجنائي " كان معركة؟ ولماذا علق المسؤول الدولي بأن العبرة بعد "تجربة" التحقيق؟

 

انه كان "معركة" بسبب السجال الداخلي الذي قاده فريق سياسي على مدى شهور خلت، تركز على دور مصرف لبنان ومسؤولية حاكمه رياض سلامة عن الانهيار النقدي الذي شهده لبنان، ما أدى خلال هذا العام الى فقدان العملة الوطنية قيمتها بنحو 80  في المئة  مقابل الدولار الاميركي. وهذا الفريق يضم تيار رئيس الجمهورية ميشال عون و"حزب الله" وحزب "القوات اللبنانية". لكن في المقابل، برز دور رئيس مجلس النواب نبيه بري وتيار "المستقبل" والحزب التقدمي الاشتراكي يدعو الى عدم حصر المسؤولية بالمصرف المركزي وحاكمه، وطالب بمحاسبة شاملة ولاسيما في ما يتعلق بمبلغ 60 مليار دولار جرى إنفاقها على وزارة الطاقة ما تسبب بأكثر من نصف الدين العام، وهذه الوزارة لا تزال منذ نحو عشرة أعوام بعهدة وزراء ينتمون الى تيار الرئيس عون، وهكذا على الطريقة اللبنانية تم إيجاد مساحة وسطى بين الموقفين المتقابلين، فكان قرار البرلمان الذي وضع كل المرافق العامة في دائرة التحقيق الجنائي.

 

هل سيحقق القرار النيابي حول التدقيق الهدف المرجو؟

 

قبل الاجابة على سؤال: هل سيحقق القرار النيابي الهدف المرجو منه؟ لا بدّ من الاشارة الى ان غبار المعركة ما كان ليتصاعد لولا الموقف الذي اتخذته شركة "الفاريز ومارسال" في 20 تشرين الثاني/نوفمبر من هذه السنة وقضى بطلب الشركة إنهاء العقد بينها وبين الحكومة اللبنانية بسبب ما اعتبرته "العراقيل التي برزت والتي حالت دون مباشرة الشركة لمهمتها في التحقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، ولاسيما موضوع السرية المصرفية والتمنع من تسليم المستندات والمعلومات المطلوبة "، وأدى إنسحاب الشركة الى تحرّك من رئيس الجمهورية بإتجاه مجلس النواب بموجب صلاحياته المنصوص عنها في الدستور،  فوجّه رسالة الى المجلس بواسطة رئيس المجلس، دعا فيها النواب الى "التعاون مع السلطة الاجرائية من اجل تمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان".

بالعودة الى السؤال عما سيحققه  القرار النيابي  في شأن التحقيق الجنائي الشامل في سائر مرافق القطاع العام بعد ان كان ينطلق  فقط من التدقيق في حسابات المصرف المركزي، يعتقد خبراء إقتصاديون وماليون ان أسلوب الانتقاء في مواجهة الانهيار المالي والاقتصادي الذي أصاب لبنان منذ أكثر من عام ولا يزال مستمراً لن ينفع في تحديد الاسباب وتحميل المسؤوليات عما آلت اليه الامور في لبنان. ومن هؤلاء الخبراء النائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسان العياش الذي وصف ما أسماه بـ "البدعة " تلك التي تقول "إن حسابات مصرف لبنان توصل التحقيق إلى الإرتكابات في المؤسّسات العامّة والوزارات"، مشيراً إلى أن الدولة تملك كل حسابات القطاع العام، ويلفت العياش النظر الى انه منذ فترة غير بعيدة أنجز فريق في وزارة المال برئاسة آلان بيفاني قطوع الحسابات عن معظم سنوات المرحلة المشبوهة، ويتساءل: "لماذا لا تقدّم هذه المعلومات ومستنداتها إلى التحقيق الجنائي مباشرة ومن دون المرور في مصرف لبنان؟".

 

ماذا عن السياسة المالية؟

 

من المفيد في هذا السياق الاستناد الى ما يعتبره الخبراء ضرورياً ويتصل بتحديد المسؤولية عن الكارثة التي وصل إليها لبنان ونظامه المالي، فيؤكدون أن هذه المسؤولية تتوزّع بين السياسة المالية والسياسة النقدية، بل إن مسؤولية مالية الدولة تتفوّق وتتقدّم على مسؤولية عمليات مصرف لبنان وسياساته.

ماذا عن السياسة المالية التي اصبحت اليوم في دائرة الضوء بعد قرار مجلس النواب الاخير؟ يجيب الخبير الاقتصادي الدكتور مروان إسكندر قائلاً:" لقد افلت زمام السياسة المالية التي شهدت انفاق 260 مليار دولار على  مدى السنوات 1993-2019 ولم يتم التحقق من بنود الانفاق إلا في اعوام قليلة بينتها لاحقاً تحقيقات المدير العام لوزارة المال آلان بيفاني".

بدوره، يجيب على السؤال نفسه العياش قائلاً: "بلغت نفقات الدولة ما بين العامين 1993 و2019 أكثر من 260 مليار دولار، عدا عن نفقات العديد من المؤسّسات العامّة التي غزاها جراد الفوضى والهدر والسرقات، ولا شيء يبرّر تحييد هذا الانفاق الضخم المشكوك بنظافته وسلامته عن التحقيق، على الرغم من الوعود الفضفاضة وغير المضمونة بأن التحقيق سوف يدخل لاحقاً إلى كل مؤسّسات الدولة".

 

في خصوص رقم الـ 260 مليار دولار

 

هل من يتأمل رقم الـ 260 مليار دولار الذي أشار اليه الخبيران إسكندر والعياش؟ بالطبع، يقول المراقبون إن الحقبة الممتدة من العام 1993 الى العام 2019 تشمل المرحلة التي تلت نهاية الحرب اللبنانية العام 1989 بموجب إتفاق الطائف. ففي العام 1993، وصل الى رئاسة الحكومة رفيق الحريري الذي قام بتنفيذ مشروع إعادة إعمار ما هدمته الحرب واستطاع على مدى نحو 6 اعوام إنجاز معظم المشروع الذي تميز بإنفاق ادى الى مردود غطى الانفاق وحقق ارباحاً ومن الامثلة مطار بيروت. أما الأعوام الأخرى، فهي شهدت تعاظم الانفاق من غير مردود وذلك لتمويل نفقات قطاع عام تضخم بشكل مخيف من دون مبرر سوى الزبائنية. ويقول وزير العدل الاسبق شارل رزق في حديث إلى "أوّلاً- الاقتصاد والأعمال": "إن حجم القطاع الاداري للدولة في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964 ) بلغ 15 الف موظف، وإذا ما اخذنا في الاعتبار ان عدد سكان لبنان قد تضاعف منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم فهذا يفترض ان يتضاعف حجم هذا القطاع ليصبح مؤلفاً من 30 الف موظف، لكن الامر لم يمض على هذا النحو بل صار القطاع الاداري للدولة يضم ربع مليون موظف!".

 

ماذا عن التوقعات بخصوص التحقيق الجنائي بصيغته الجديدة؟

 

هل من آمال يمكن توقعها من التحقيق الجنائي بصيغته الجديدة؟ بالطبع، هناك مسار بدأ للتو وهو يفترض اولاً قيام حكومة تصريف الاعمال برئاسة حسان دياب بالتعاقد مع شركة جديدة لتتولى هذه المهمة. وفي انتظار انطلاق التحقيق مع شركة جديدة يبقى رقم الـ 260 مليار دولار في واجهة الاهتمام، أي اكثر من ربع تريليون دولار كلفة السياسة المالية في لبنان على مدى ثلاثة عقود تقريباً. انه رقم كبير جداً بالنسبة الى حجم بلد صغير مثل لبنان. فهل سيتحول التحقيق الجنائي اللبناني  المنشود الى إبرة قد تضيع  في كومة ربع تريليون دولار؟ انه سؤال برسم المستقبل.