قطاع الطيران في عين الأزمة

  • 2020-01-09
  • 12:32

قطاع الطيران في عين الأزمة

  • سليمان عوده

بدأت تداعيات التصعيد الحاصل بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران في العراق تترك آثاراً على قطاع الطيران في المنطقة. فقد علقت بعض شركات الطيران العربية والعالمية رحلاتها إلى العراق، فيما حولت شركات أخرى مسارات طيرانها لتفادي الأجواء العراقية والإيرانية. كما أن الزيادة الحاصلة في أسعار النفط سترفع من كلفة هذه الشركات، وتنعكس سلباً على أرباحها. ولا شك أن أي تصعيد أو أعمال عسكرية جديدة سيكون لها انعكاسات إضافية نتيجة تراجع حركة المسافرين والشحن من وإلى المنطقة. 

وتلقي التطورات العسكرية الأخيرة في منطقة الخليج العربي بثقلها على قطاع الطيران برمته، لا سيما الناقلات الإقليمية، من دون أن تستثني شركات الطيران العالمية. وبدأت جميع الناقلات تواجه ظروفاً تشغيلية ضاغطة، تقيد حركتها وتحد من قدرتها على الالتزام بجداول رحلاتها المعلنة. وسوف ينتهي بها المطاف، إذ طال أمد الصراع القائم حالياً، إلى زيادة أكلافها التشغيلية، ويؤدي إلى تآكل أرباحها. فقد حظرت الوكالة الفيدرالية للطيران الأمريكي على الطائرات المدنية الأمريكية التحليق فوق العراق وإيران والخليج في أعقاب الهجمات الأخيرة في العراق. وعلقت الخطوط الفرنسية “إير فرانس" جميع الرحلات في الأجواء الإيرانية والعراقية حتى إشعار آخر عقب القصف الإيراني. وقال متحدث باسم الشركة إنها قررت تعليق أي تحليق للمجال الجوي الإيراني والعراقي "كإجراء وقائي". وفي ألمانيا، أعلنت لوفتهانزا أنها ألغت رحلتها يوم الأربعاء (8 كانون الثاني/يناير) إلى طهران. وأعلنت شركات عدة أخرى أبرزها طيران الإمارات وفلاي دبي والخطوط الجوية الماليزية وكانتاس والخطوط الجوية السنغافورية إنها ستتفادى المجال الجوي الإيراني في أعقاب تصاعد التوتر العسكري في المنطقة. كما علقت كل من طيران الخليج ومصر للطيران رحلاتها إلى العراق. 

 

تعديل المسارات

وعزت إدارة الطيران الاتحادية الأميركية قرار حظر التحليق في المجال الجوي للعراق وإيران وخليج عمان إلى “الأنشطة العسكرية المحتدمة والتوترات السياسية المتصاعدة في الشرق الأوسط، التي قد تعرض عمليات الطيران المدني الأميركية للخطر”. وقبل هذا الحظر، كانت الوكالة قد حظرت بالفعل على شركات الطيران الأميركية التحليق على ارتفاع يقل عن 26 ألف قدم فوق العراق، والطيران في جزء من المجال الجوي الإيراني فوق الخليج العربي وبحر عمان، وذلك إثر إسقاط إيران طائرة مسيرة أميركية على ارتفاع عال في حزيران/يونيو الماضي. وتفيد بيانات المواقع المتخصصة التي ترصد مسارات الطائرات المدنية إلى أن عدة شركات طيران غير أميركية كانت تسير رحلات فوق أجزاء من العراق وإيران في وقت الهجوم. 

وباشر العديد من الناقلات بتعديل مسارات الطيران لكي تتوافق مع الواقع الجديد. ويزيد هذا الأمر من الأعباء المالية على الشركات، خصوصًا أن المجال الجوي الذي تسيطر عليه إيران والعراق ينظر إليه على أنه ذو أهمية استراتيجية للطيران التجاري في الشرق الأوسط. وبات يتحتم على الناقلات التي تسير رحلات طويلة المدى فوق الخليج أن تجد مسارات أكثر أمناً، بعيداً عن مساراتها التقليدية. وتتحذ شركات الطيران خطوات متزايدة للكشف عن التهديدات على طائراتها بعد إسقاط طائرة ركاب ماليزية في 2014 بصاروخ فوق أوكرانيا مما أودى بحياة جميع من كانوا على متنها وعددهم 298 شخصاً. 

 

أكلاف أعلى 

يزيد تعديل المسارات من الكلفة التي تدفعها شركات الطيران عن كل رحلة، كما يجعل من أمد بعض الرحلات أطول زمناً أحياناً، مما يفقد الخط جاذبيته في نظر المسافرين. وستضطر الناقلات التي كانت تعبر فوق المجال الجوي العراقي والإيراني إلى سلوك مسارات أكثر تعقيداً. فبالنسبة إلى ناقلة كطيران الإمارات مثلاً، ستجبر على سلوك مسار طويل ومعقد فوق السعودية ومصر والبحر المتوسط فتركيا حتى تبلغ مقاصدها في أوروبا الشمالية والشرقية وروسيا وأوكرانيا، وبما يتيح لها أن تتفادى المجال الجوي العراقي، خصوصاً أنها لا تعبر المجال الجوي السوري ولا المجال الجوي فوق فلسطين. ويزيد ذلك من متوسط الزمن التقديري لكل رحلة، ومثلها كلفة الوقود، بأكثر من 35 بالمئة قياساً بمسار يمر فوق الخليج العربي والعراق وتركيا. وينطبق الأمر نفسه على الشركات التي تعبر من شرق آسيا إلى أوروبا، والتي ستضطر إلى استخدام مسارات بديلة إما فوق السعودية أو فوق تركمانستان، ما يعني زيادة في الكلفة وزمن الرحلة. 

 

أسعار النفط  ترتفع

وفرض الصراع الدائر حالياً ارتفاعاً سريعاً في أسعار الذهب الأسود. فقد ارتفعت أسعار النفط لأعلى مستوياتها منذ أبريل/نيسان الماضي، وتم تداول "برنت" بأعلى من 70 دولاراً للبرميل بعد تصاعد التوترات الجيوسياسية، قبل أن يعود الخام القياسي لتقليص مكاسبه لاحقاً. وسيمثل بقاء الأسعار عند هذه العتبة المرتفعة تحدياً بالنسبة إلى شركات الطيران، إذ أنه سيترجم ارتفاعاً في أسعار بطاقات السفر، وبالتالي قد يؤثر سلباً على الطلب. ويشكل الوقود نسبة تتراوح بين ٣٥ و٤٠ بالمئة من الأكلاف التشغيلية لشركات الطيران في العادة، وبفارق يضيق أو يتسع قليلاً بالنسبة إلى كل شركة على حدة. وتشير الدراسات الخاصة بقطاع الطيران إلى أن كل زيادة بنسبة ١٥ بالمئة في أكلاف الوقود تخفض ربحية القطاع بنسبة تتراوح بين 3 و4 بالمئة، وتلك نسبة مرتفعة، خصوصاً متى أدركنا أن هامش ربحية القطاع لا يتجاوز في المتوسط ١٥ بالمئة. وحذرت "موديز" من أن تصاعد التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة وإيران سوف يؤدي إلى صدمة اقتصادية ومالية كبيرة. وقال وكالة التصنيف الائتماني عبر مذكرة للعملاء إن توسع النزاع قد يحدث “صدمة اقتصادية ومالية واسعة تؤثر سلباً على ظروف التشغيل والتمويل”. أضافت المذكرة: "من المحتمل أن يكون للنزاع إذا طال أمده تداعيات عالمية، لا سيما من خلال تأثيره على أسعار النفط". وقد لا تستطيع شركات الطيران بسهولة تمرير الكلفة الزائدة إلى المستهلك، خصوصاً أن التوترات الراهنة تأتي في الشهر الأول من السنة، والذي يمتاز بضعف الطلب عموماً، لا سيما أنه يعقب فترة الذروة المتمثلة في الأسبوعين الأخيرين من السنة، أي موسم الأعياد. لذلك، لن تستطيع الناقلات بسهولة رفع أسعار بطاقات السفر، في وقت يتوقع فيه المسافرون عروضاً وتخفيضات تحفزهم على السفر في موسم يشهد طلباً ضعيفاً.  

 

التأمين إلى ارتفاع

بدورها، تزيد التوترات الجيوسياسية الراهنة من كلفة التأمين على قطاع الطيران. وبالرغم من أن كلفة التأمين لا تشكل في العادة سوى نسبة نصف بالمئة من الأكلاف التشغيلية للقطاع، إلا أن ذلك يساوي ما يقرب من ١٥٧ ألف دولار سنوياً في المتوسط للطائرات صغيرة الحجم ذات البدن الرفيع، والتي تستخدمها أكثرية شركات الطيران في المنطقة في رحلاتها الإقليمية. كذلك، سترتفع أيضاً كلفة الطائرات المستأجرة، والتي يستعين بها العديد من الناقلات الإقليمية. وستزيد كلفة إيجار الطائرات بفعل زيادة المخاطر الجيوسياسية، الأمر الذي سيلزم الناقلات على تكبد أكلاف أعلى للمحافظة على استمرارية العمل ببعض الخطوط. وتساوي الكلفة السنوية لاستئجار طائرة صغيرة الحجم ذات بدن رفيع ما يعادل مليوناً ونصف مليون دولار سنوياً في المتوسط. أيضاً، ستضطر الناقلات إلى تحمل أكلاف إضافية ذات صلة بفرق العمل التي ستجد نفسها مجبرة على الاستعانة بها لساعات أطول، لا سيما في المسارات المعدلة والتي سيتطلب قطعها وقتاً إضافياً. 

 

أرباح فائتة

في المقابل، من المنتظر أن يسجل القطاع خسائر فائتة كبيرة، لا سيما بفعل إلغاء بعض الرحلات المبرمجة سلفاً، أو تجميد العمل ببعض الخطوط. وكمثال على ذلك، فقد أعلنت شركة "طيران الخليج" البحرينية إلغاء رحلاتها من وإلى بغداد ومدينة النجف. وكانت “الخطوط الجوية الكويتية” أعلنت الإثنين عبر تويتر أن رحلاتها إلى مدينة النجف في العراق، وهي الرحلة الوحيدة إلى العراق "موقوفة منذ حوالى أربعة أسابيع بالتنسيق مع السلطات الحكومية المختصة وبناء على معايير سلامة التشغيل وسلامة ركابها". وفي دبي، أعلنت شركة “طيران الإمارات” إلغاء رحلة عودة إلى بغداد يوم أمس الأربعاء. وقالت الشركة التي تتخذ من دبي مقراً إنها  قد تضطر إلى إجراء المزيد من التغييرات التشغيلية عند الضرورة، بالتنسيق والتواصل مع السلطات الحكومية المعنية. وألغت شركة “فلاي دبي” رحلة إلى بغداد في اليوم ذاته أيضاً، وذلك في أعقاب إطلاق الصواريخ الذي أتى رداً على مقتل القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني بضربة جوية استهدفته في مطار العراق. 

 

توقعات مستقبلية

إنّ أيّ تصعيد عسكري في الصراع القائم حالياً، والذي قد يستتبع بامتداد الأعمال العسكرية إلى بلدان أخرى في المنطقة، قد يترك آثاراً سلبية كبيرة على حركة السفر، ويكبد الشركات خسائر فادحة. ومن المحتمل أن يزيد ذلك بالتأكيد من الضغوط المالية، في قطاع يكابد بالفعل آثار ضعف الطلب عموماً، فضلاً عن وقف تشغيل الطائرة بوينغ 737 ماكس الذي طال أمده. وفي كانون الأول/ديسمبر، خفضت شركات الطيران العالمية توقعات أرباح القطاع ككل في 2019 تحت وطأة توترات التجارة، لكنها توقعت انتعاشه في 2020، وهو ما قد يصعب تحقيقه في جو إقليمي ملتهب.