أساليب وطرق التهرّب الضريبي في لبنان وسبل معالجتها

  • 2020-01-16
  • 12:46

أساليب وطرق التهرّب الضريبي في لبنان وسبل معالجتها

  • كريستي قهوجي
يعاني لبنان من ظاهرة الفساد المتفشية في مرافقه الاقتصادية وقطاعاته الحيوية منذ أكثر من 3 عقود. هذه الظاهرة، التي لم تشهد محاولات لمعالجتها، كان لها الأثر الأكبر في تقويض قدرة لبنان على النهوض، فأفرزت مشكلات اقتصادية ومالية أبرزها ارتفاع الدين العام والعجز في الميزانيات العامة، بالإضافة إلى مشكلات اقتصادية اجتماعية كازدياد نسبة البطالة وهجرة الشباب إلى الخارج.
كثيرة هي وجوه الفساد في لبنان، وهي تختلف في تأثيراتها من وجه إلى آخر، ولعلّ أبرزها التهرب الضريبي الذي يحرم خزينة الدولة من إيرادات مالية تقدر بمليارات الدولارات، تتراوح بحسب تقديرات جهات رسمية ومالية محلية وجهات دولية بين 1.7 مليار إلى 6 مليارات دولار سنوياً، فيما تصل تقديرات الخبراء الاقتصاديين إلى نحو 7 مليارات دولار سنوياً أي ما يصل إلى نحو 40 في المئة من حجم الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، علماً أنه لا أرقام رسمية حول هذه التقديرات.

 

أنواع التهرب الضريبي

يتألف التهرب الضريبي من ثلاثة أنواع هي، التجنب الضريبي المشروع، الغش الضريبي، الإساءة مع التعسف في استعمال الحق.

ويعتبر التجنب الضريبي المشروع نوعاً من التحايل على القوانين بموافقة ومباركة من المشرّع نفسه وذلك عبر مجالات وطرق عدة من أجل تخفيض الكلفة الضريبية، كما هو الحال في لبنان بالنسبة للشركات القابضة (الهولدينغ) والأوفشور. ويقول رئيس "الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين" المحامي كريم ضاهر أن بدايات هذا النوع من التهرب بدأت سنة 1983 عندما لجأت الحكومة إلى السماح بتأسيس شركات "اوفشور" و"هولدينغ" وأعفتها من ضرائب الدخل والتوزيع، وذلك في إطار مساعي إعادة لبنان إلى مركزه المالي للأعمال وجذب المستثمرين الأجانب للعمل في لبنان وفرضت عليهم تكلفة ضريبية مخفضة، وقد نتج عن ذلك أن اللبنانيين عمدوا إلى تأسيس مثل هذه الشركات لتوفير الضرائب، وهذا أمر مشروع.

ويوضح ضاهر أن المادة 19 من القانون رقم 282 لسنة 1993 والتي عدّلت المادة 73 من قانون ضريبة الدخل وأعفت ربح التفرّع عن الأسهم من الضريبة، شكّلت سبباً آخر للتهرب الضريبي، مشيراً إلى أن المدافعين عن هذا الاجراء اعتبروا أن هناك فرق كبير بين فئة الأسهم لحامليها التي لا يمكن فرض ضريبة على أصحابها وفئة الأسهم الإسمية التي يمكن أن تخضع لهذا الإجراء، أمّا المعارضين فكانت حجتهم أن التعديل تزامن مع تأسيس شركة "سوليدير" وعليه رأوا أن هناك عملية شراء أسهم ستتم بأسعار منخفضة فيما سيتم بيعها بأسعار مرتفعة. كذلك فقد استغل بعض المواطنين اللبنانيين القانون لشراء أراض تحت أسماء شركات عقارية ليعاود بيع أسهمها متهرباً بذلك من دفع الضرائب المرتبطة، كذلك فقد تخلص الشاري بدوره من رسوم التسجيل.

 

إعفاء ربح التفرّع عن الأسهم من الضريبة
شكّل سبباً آخر للتهرب الضريبي

 

أمّا بالنسبة إلى النوع الثاني أي الغش الضريبي، فهو بخلاف النوع الأول فقد حظره القانون ونصّ على معاقبة فاعله والمشاركين له أو المحرّضين، ويعدّ هذا النوع انتهاك مباشر لقانون الضريبة عن سابق إصرار وترصد. وعليه يرى ضاهر أن تزوير المستندات وعدم التصريح وإخفاء الأرباح يترتب عليها عقوبات مالية تمّ توحيدها منذ سنة 2008 في إطار قانون الإجراءات الضريبية، بالإضافة إلى عقوبات جزائية مرعية بموجب المرسوم الاشتراعي 156/83 الذي عدل المادة 8 من قانون ضريبة الدخل والتي تحدد غرامات مالية ودفع قسم من الأموال التي تم اخفاءها وعقوبات بالسجن قد تصل إلى 3 سنوات. 

وبالنسبة إلى النوع الثالث أي الاساءة مع التعسّف في استعمال الحق فهذا مفهوم جديد متطور توصل إليه كل من الاجتهاد الإداري في أحكامه والإدارة الضريبية في عرفها، وقد كرّسه المشرّع اللبناني منذ حين بموجب المادة العاشرة من قانون الإجراءات الضريبية الجديد رقم 44 لسنة 2008 والتي سمحت للإدارة الضريبية أن تعيد توصيف العمليات الصورية أو القانونية في الشكل من أجل محاربة ظاهرتي التهرب والتفلت الضريبيتين، كذلك سمحت للإدارة بتعديل قيمة العمليات وشروطها التي تتم بين أشخاص مترابطين (سلطة الإدارة أو التوجيه) على أساس قيمة وشروط حصلت في عمليات مشابهة بين شخصين مستقلين وضمن شروط تنافسية. 

وذهب المرسوم التطبيقي رقم 2488 تاريخ 3/7/ 2009 ابعد في تعريفه التهرب الضريبي بحيث صنفه على انه كل عمل ينتج عنه تخفيض او الغاء للضريبة او تأجيل تاريخ استحقاقها او زيادة في قيمة الضريبة المطلوب تنزيلها او استردادها من دون وجه حق، سيّما ما يعرف من جهة بالعملية الصورية الموصوفة بانها كل اتفاق او عمل يقوم به المكلفون ولا يعكس حقيقة ما اتفقوا عليه فعلياً بعدف اخفاء الاتفاق الفعلي او الغاية الحقيقية بغية تخفيض القيمة الضريبية المتوجبة اصولا على العملة الفعلية مع تحديد نسبة 20 في المئة من القيمة السوقية لكشف تلك العمليات الصورية. إن ما يعرف، من جهة اخرى، بالعملية القانونية في الشكل التي ترمي بصورة اساسية الى التهرب من دفع الضريبة او تخفيضها دون وجه حق. ويكون المشرع، بذلك، قد أوصد كل الابواب والمخارج التي كانت متاحة سابقاً للمكلفين لترير تهربهم المشروع بحجة انه غير محظور وغير متعمّد وغير واضح الاهداف، مضيفاً انه ومنذ ذلك الحين، نشطت الاجهزة الضريبية واعادت وتوصيف وتكليف الكثير من العمليات على الاساس والنحو المذكورين مع التوسع لجعة تعديل قيمة العمليات وشروطها التي تتم بين اشخاص مترابطين اي الذين يكون بينهم سلطة الاشراف والتوجيه او صلة تبعية وذلك لتحديد المبالغ الخاضعة للضريبة على اساس القيمة السوقية العادلة بين اشخاص مستقلين وضمن شروط تنافسية كاملة.

كيف تتم عملية التهرب الضريبي؟

إن غياب تعريف واضح للتهرب الضريبي أدى إلى وجود أساليب وخيارات عدة للتنصل من المسؤولية، وقد استدرك المشرّع اللبناني ذلك فأدخل تعريف التهرب الضريبي في قانون الموازنة العامة الرقم 144/2019، والذي اعتبر أن التهرب الضريبي هو "قيام الشخص الملزم بموجبات ضريبية بشكل متعمد بعدم التصريح عن الضرائب والرسوم المستحقة للدولة والمترتبة على دخله أو ثروته، وعدم دفع الضرائب والرسوم التي يتوجب عليه اقتطاعها أو تحصيلها أو تخفيض تلك الضرائب والرسوم، أو إلغائها، أو تنزيلها، أو استردادها من دون وجه حق، وذلك من خلال استعمال طرق وأساليب غير مشروعة تمت تسميتها بوضوح".
وبالإضافة إلى ما تقدم هناك ممارسة متنوعة لتهرب الشركات من الضريبة، ومنها، بحسب الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان، أن بعض الشركات يضع ميزانيتين واحدة غير دقيقة تقدّم لوزارة المالية، والثانية تتضمن الأرقام الحقيقية لموازنة الشركة، كذلك فإن الأفراد وأصحاب المهن الحرة لا يصرحون عن دخلهم الكامل ويساعدهم بذلك قانون السرية المصرفية.

 

وغير ذلك، فإن عملية التهرب الضريبي قد تكون شاملة يشارك فيها موظفون وأصحاب مصالح وأصحاب نفوذ وأناس عاديون، ويرى البروفوسور في العلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية غسان الشلوق فإنه من الوجوه البارزة للتهرب الضريبي التزوير الحاصل في جباية الرسوم الجمركية بحراً وبرّاً وجواً. كذلك التنصل من دفع الضريبة على القيمة المضافة إذ أن هناك أعمالاً هائلة لا تسجل وقد تكون تتجاوز نسبة التهرّب التي قد أشرنا اليها في البداية. ويشير الشلوق إلى أن الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه الى الضرائب المباشرة ومنها تحديداً الضرائب على الأرباح إذ أن قسماً كبيراً منها لا يسجل ولا يستوفي الشروط، بالإضافة الى الضريبة على الأجور والتعويضات وحتى الضرائب على الاملاك وسواها.

لا أرقام رسمية حول كلفة التهرب الضريبي 

 
واقع عمليات التهرّب الضريبي أدى إلى خسارة خزينة الدولة لمليارات الدولارات سنوياً، وبحسب أبو سليمان فإن التهرب الضريبي يؤدي إلى خسارة الخزينة العامة لما يقدّر بين 5 إلى 7 مليارات دولار سنوياً، مشيراً إلى ان نسبة التحصيل الضريبي لا تتخطى الـ  12 في المئة من الناتج المحلي، ما يفترض بأي ورشة اصلاحية العمل على تحسين التحصيل الضريبي. وهذا يقود إلى خسارة خزينة الدولة لمداخيل تساهم بشكل سلبي في رفع العجز المالي.

 وعلى الرغم من أنه يصعب تحديد حجم التهرب الضريبي في لبنان نظراً لتنوعه وظهوره بأشكال ومواقع متعددة، فإن الشلوق يقدر حجمه بنحو 40 في المئة من حجم الإيرادات الضريبية وغير الضريبية المفترضة وذلك كمعدّل وسطي، لافتاً الانتباه إلى أن هذه النسبة ممكن ان ترتفع في بعض الظروف او تنخفض في ظروف أخرى، موضحاً في الوقت نفسه، أن التهرب يصيب كل الابواب الضريبية لكنه يظهر بشكل أوضح في مجال الضرائب غير المباشرة.

إلى ذلك، كانت جهات عدة قد تحدثت عن كلفة التهرب الضريبي في لبنان، وكان أبرزها ما ذكره وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال منصور بطيش الذي أشار إلى أن كلفة التهرب الضريبي تقدر  بـ 1.7 مليار دولار تقريباً، كذلك ما ورد في تقرير صدر عن "بنك عودة" العام الماضي، والذي قدرها بـ 4.2 مليار دولار. ويضاف إلى ذلك تقديرات البنك الدولي الذي أشار في أحد تقاريره إلى أن كلفة التهرب الضريبي في لبنان بلغت 5 مليارات دولار وهي نسبة أقل بمليار مما ذكرته "ماكينزي" التي قدرت بدورها الكلفة بنحو 10 في المئة من الناتج المحلي البالغ 60 مليار دولار أي 6 مليارات.

وفي المحصلة، فإن اختلاف نسب التقديرات يؤكد أن لا أرقام رسمية دقيقة لنسبة التهرب الضريبي في لبنان، وبحسب ضاهر فإن سبب غياب الأرقام الدقيقة يعود إلى عدم وجود إحصاءات دقيقة وثابتة مرتكزة على معطيات حسيّة واضحة. 

آليات وحلول 

لا شكّ أن ارتفاع أرقام كلفة التهرب الضريبي، تستدعي معالجة الظاهرة لما في ذلك من فائدة لخزينة الدولة، وفي سياق الحلول يشدد ضاهر على ضرورة على ضرورة العمل على تقوية المواطنية الضريبية من خلال إعلام المكلّف بأن دفع الضريبة هو واجب عليه تجاه دولته، يحصل بالمقابل على خدمات عامة،  وإذ يوضح أنه يجب على الدولة توسيع قاعدة مكلّفيها، يؤكد وجود خلل في العدالة الضريبية بشكل عامودي لغياب ضريبة موحدة على الدخل تشمل كل المداخيل بشكل تصاعدي، بالاضافة الى خلل افقي إذ أن هناك مواطنين يدفعون ضرائبهم، فيما يتمنّع آخرون عن ذلك لأسباب سياسية ومناطقية.

ويتحدث ضاهر عن طرق يمكن للدولة اتباعها في تحصيل ضرائبها من خلال توثيق المعلومات لدى السلطة الضريبية المركزية لتحليلها (Data Mining)، بالاضافة الى تعميم الرقم الضريبي الموحد لجميع المواطنين والمقيمين الأجانب يتم استخدامه في كل تعاملاتهم المصرفية والمالية. 

كما يجب استخدام ألية "Name And Shame" للمتهربين والمتخلّفين عبر نشر أسمائهم في وسائل الإعلام والإعلان، مشيراً إلى أن هذا اجراء متّبع في معظم الدول حول العالم، بالاضافة الى اعتماد نظام وتكنولوجيا البيانات المتسلسلة لخفض امكانيات التستر والتهرّب وتعزيز الشفافية يحيث يتم ربط الحواسيب فيما بينها مع قاعدة احصائية متلازمة.

بدوره، يرى أبو سليمان انه يجب على الهيئات الرقابية أن تكون متشددة في عملها لوقف الفساد في الادارات العامة لأنه يعتبر نوعاً من انواع التهرب الضريبي، مضيفاً انه يجب تفعيل القانون الذي تمّ وضعه حديثاً ويفرض على أي مستدين تقديم بيانات مالية مصدقة من وزارة المال. 

وبالنسبة إلى الأفراد وأصحاب المهن الحرة، يشدد أبو سليمان على وجوب رفع السرية المصرفية في حال الشكوك في سلوك هؤلاء، وتشديد الرقابة على المعابر الشرعية ومنها المرفأ من خلال "السكانر".

أما شلوق فيرى على أن الحلول قد لا تقتضي وجود خطة جديدة بل إن ما نحتاجه هو وجود دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، تمارس الأجهزة القضائية والرقابية فيها مهامها بشكل جدي وفعّال، والاهم تزامن ذلك مع التزام وطني شامل وقناعة تامة بأن هذه الدولة هي دولتنا وواجبنا المحافظة على حقوقها.