بلدان الخليج وحتمية الانتقال إلى اقتصاد جديد

  • 2020-07-08
  • 09:16

بلدان الخليج وحتمية الانتقال إلى اقتصاد جديد

  • الياس بارودي

 فرضت التداعيات الاقتصادية والمالية والنفطية لفيروس كورونا نفسها على برامج وخطط دول الخليج للإصلاح وتنويع الاقتصاد، وتسعى هذه الدول حالياً إلى الموازنة بين مواجهة هذه التداعيات ووضعية المالية العامة من جهة، وبين مواصلة خطط الإصلاح والتنويع، وهي مهمة ليست سهلة في ظل الانكماش الاقتصادي السائد حالياً والتكلفة المرتفعة لبرامج التحفيز مقابل التراجع الحاد في الإيرادات، علماً أن هذه المرحلة مفترض أن تؤدي في النهاية إلى بناء ما يمكن وصفه
بـ "إقتصاد الخليج الجديد".

وتواجه دول الخليج في هذه المرحلة الانتقالية جملة من التحديات في ضوء التطورات الجارية على صعيد الاقتصاد العالمي والخليجي من دون أن تكون لها حلول سريعة، حيث إن جانباً منها يتعلق بقضايا بنيوية أساسية.

 

تحدي تراجع الإيرادات

 

 

أدت الأزمة النفطية التي نتجت في جانب رئيسي منها عن تداعيات فيروس كورونا، إلى تراجع الإنتاج وتراجع حاد في الأسعار، هو التحدي الأكبر للإقتصادات الخليجية في هذه المرحلة، خصوصاً أن التوقعات تشير إلى أن معدل سعر النفط سيكون في حدود 34 دولاراً للبرميل خلال العام الحالي، وقد يرتفع إلى 48 دولاراً العام المقبل، في حين أن السعر المطلوب لتحقيق التوازن في ميزانيات دول الخليج هو نحو 69 دولاراً في السعودية والإمارات والكويت وأكثر من 91 دولاراً للبرميل في البحرين وعُمان.

ويضاف إلى ذلك، تراجع الإيرادات غير النفطية في مختلف القطاعات ومثال ذلك، إضطرار السلطات السعودية إلى تقليص موسم الحج هذه السنة بعد إلغاء العمرة وإقتصاره على المواطنين والمقيمين، علماً أن هذين الحدثين يدران نحو 12 مليار دولار سنوياً.

كما انعكست حالة الكساد في الإقتصاد العالمي بشكل حاد على دول الخليج أيضاً، بخاصة من حيث تراجع حركة الطيران والسياحة إلى المنطقة والعدد الكبير من أنشطة الخدمات والتجارة المرتبطة بها، والتي تطورت جميعها، خصوصاً خلال العقدين الماضيين، من خلال الإستراتيجيات التي اعتمدتها الدول الخليجية لتنويع إقتصاداتها.

وعليه، فقد أصبح من المؤكد أن جميع الإقتصادات الخليجية ستشهد إنكماشاً ملحوظاً هذه السنة على الرغم من الإجراءات التي تتخذها حكومات المنطقة للحدّ من خسائر القطاع الخاص والتعويض عنها ولو نسبياً، وتوقعت وكالة ستاندرد آند بورز حدوث إنكماش في أبوظبي بنسبة 7.5 في المئة، وفي البحرين بنسبة 5 في المئة، وهناك توقعات أخرى بحدوث إنكماش في الإقتصاد السعودي بما لا يقل عن 5 في المئة أيضاً، وفي قطر بنحو 6-7 في المئة، والوضع ليس أفضل في دبي.

بمعنى آخر وبإختصار، فإن قطاعات السياحة والخدمات كما العقار المرتبط بهما والتي رأت فيها دول الخليج بشكل عام مجالات أساسية لتنويع إقتصاداتها والحدّ من أثر أي إنخفاض محتمل في قطاع النفط، كانت بدورها عرضة لإنتكاسة حادة نتيجة وباء كورونا وهي ستتأثر بعد ذلك بإنخفاض عائدات النفط، ومعروف ان هذه القطاعات توظف أعداداً كبيرة من العاملين، الجزء الأكبر منهم من العمالة الوافدة، وهؤلاء يشكلون كتلة إنفاق إستهلاكي كبيرة بحيث إن تراجع الحركة في هذه القطاعات سيكون له تأثير مضاعف أو أكثر على النشاط الإقتصادي عامة.

 

تحدي الانفاق التحفيزي

 

في مقابل هذا التراجع في الإيرادات، كان على الدول الخليجية ضخ مبالغ ضخمة للتقليل من حدة تأثيرات الوباء على الأنشطة الاقتصادية، وبحسب الأرقام والتقديرات الأخيرة، فإن مجموع الأموال التي خصصتها دول الخليج للتحفيز الاقتصادي يصل إلى نحو 50 مليار دولار، ولا يمكن التكهن بما هي المخصصات الإضافية لمواجهة التباطؤ والركود المتوقع في المرحلة المقبلة، ومجموع هذه العوامل ستؤدي إلى المزيد من استنزاف الإحتياطات المالية لدول الخليج التي بلغت في نهاية 2019 نحو تريليوني دولار بعد إنخفاض تدريجي في السنوات الخمس الأخيرة.

 

تحدي العمالة الوافدة

 

التحدي الثالث هو العمالة الوافدة في دول الخليج والتي يقدر عددها بنحو 25 مليون شخص أي ما يوازي 35 في المئة من مجمل عدد سكان دول المنطقة، ويقوم هؤلاء بدور إقتصادي حيوي حيث يتراوح عملهم ما بين المراكز الإدارية العليا إلى الأطباء والمهندسين والمعلمين والتقنيين وإلى العمال والعاملات الذين يشكلون الجزء الأكبر من هذه العمالة، وبالإضافة إلى متطلباتهم المعيشية في دول تواجدهم ودورهم في الإنفاق الإستهلاكي المحلي، فإن تحويلاتهم إلى دولهم الأم باتت تشكل بنداً مهماً في موازين مدفوعات دول الخليج، حيث بلغت ما يقدر بنحو 120 مليار دولار في 2019.

ولا يقتصر التحدي الذي تمثله العمالة الوافدة على ضخامة التحويلات السنوية، فهي باتت تمثل اقتصاداً مصغراً ضمن الاقتصاد الخليجي، كما باتت تشكل كتلة استهلاكية ضخمة للسلغ والخدمات ولم يعد سهلاً الإستغناء عنها بحسب الأوضاع والهيكلية الإقتصادية القائمة، ولكنها تشكل في المقابل عبئاً إقتصادياً كبيراً. ونتيجة وباء كورونا، فقد غادرت أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية دول الخليج، منها مثلاً 1.2 مليون شخص من السعودية، وما حدث في المملكة حدث أيضاً في جميع الدول الخليجية الأخرى. وبخروج هذه الأعداد ستنخفض التحويلات من دون شك لكن المنطقة ستفقد أيضاً قوة شرائية مهمة، وهنا تكمن المعضلة.

وفي المقابل، فإن دول الخليج ستبقى بحاجة الى الجزء الأكبر من العمالة عند عودة النشاط الإقتصادي عاجلاً أم آجلاً، لكن لا بدّ من التساؤل ما إذا كانت الفرصة سانحة لنظرة متعمقة في قضية العمالة الوافدة في المنطقة وفي كيفية تقليل وترشيد الإعتماد عليها على مختلف المستويات مع كل ما قد يتطلبه ذلك من ضوابط قانونية وتنظيمية وإجراءات إقتصادية.

 

فرصة لترسيخ سياسات التحول

 

والسؤال هو، هل يمكن لجميع هذه الوقائع أن تكون منطلقاً لتحول جذري في المنظومة الإقتصادية في الخليج نحو إقتصاد سوق مبني على تنافسية وانتاجية اعلى في جميع المجالات وعلى التكلفة الحقيقية للسلع والخدمات الإستهلاكية والإنتاجية بعيداً عن الدعم المكلف اقتصادياً؟ ويمكن القول إن كل ذلك أصبح حتمياً لو أرادت دول الخليج مواجهة التحولات والصعوبات المقبلة على صعيد الإقتصاد العالمي.

ولعل في بعض الخطوات التي اتخذت أخيراً مؤشراً لبدء هذا المسار، حيث أعلنت السعودية مثلاً رفع ضريبة القيمة المضافة ثلاثة أضعاف وخفض مخصصات موظفي القطاع العام، وإلغاء أو تأجيل مشاريع بقيمة نحو 37 مليار دولار، وبدأت الحكومة الكويتية بإعداد خطط لترشيد الإنفاق العام، كما اعلنت معظم بلدان الخليج عن اجراءات تقشفية غير مسبوقة. ويجدر التذكير هنا، على سبيل المثال، أن السعودية كانت قد رصدت 295 مليار دولار في موازنة 2019، وهي الأكبر في تاريخ المملكة للإنفاق على عدد كبير من المشاريع والبرامج الإستثمارية لدعم أهداف الإصلاح والتنويع الإقتصادي، لكن بلوغ هذه الأهداف سيزداد صعوبة في ظل السعر الحالي والمتوقع للنفط، والإرتفاع الحاد المتوقع في عجز الموازنة، وهناك بعض الخطوات المماثلة في تخفيض وترشيد الإنفاق إتخذت في دول الخليج الأخرى، لكن الطريق لا يزال طويلاً، كما إن السياسات والخطوات المطلوبة لبناء إقتصاد جديد لا يمكن تطبيقها بسرعة في ظل الأوضاع الإقتصادية الحالية بل إن المرحلة تتطلب توازناً دقيقاً بين جهود ترشيد الإنفاق للحفاظ على الإحتياطات من جهة وضرورة دعم وإنعاش اقتصادات المنطقة في مواجهة آثار وباء الكورونا عليها من جهة أخرى.