زلزال كورونا يمهد لإنتاج دبي جديدة

  • 2020-05-31
  • 18:05

زلزال كورونا يمهد لإنتاج دبي جديدة

اقتصاد مستدام أقل انكشافاً على العولمة وأكثر مقاومة لأزمات المنطقة والدورات الاقتصادية

  • رشيد حسن

إستقطبت دبي اهتمام العالم باعتبارها، ربما مع سنغافورة وهونغ كونغ، بين أبرز الأمثلة على الفرص الهائلة التي فتحها اقتصاد العولمة وثورة الاتصالات وتقنية المعلومات والمواصلات لإمارة صغيرة مفتقدة للموارد الطبيعية، لكنها تتمتع بموقع استراتيجي وبطموح شديد وقيادة خلاقة، للحصول على حصة من الازدهار العالمي.

وجد قادة دبي بسرعة أن فرصة الإمارة التاريخية هي في أن تجعل من نفسها جسراً ومحطة وعامل تسهيل لاقتصاد العولمة لكل جوانبه وأهمها التجارة الدولية والنقل أو الخدمات اللوجيستية وأخيراً السياحة والترفيه، وفي غضون عقود قليلة، ترجمت هذه الرؤية بنجاحات عالمية مثل طيران الإمارات وموانئ دبي وإعمار وأخيراً تحول دبي إلى محطة عالمية للسياحة والاستجمام والمؤتمرات والتسوق والمعارض مع نحو 15.3 مليون زائر أجنبي في العام 2019، ما يضعها في العالم العربي في مرتبة قريبة من السعودية ومصر. وتعتبر شركة طيران الإمارات بين الأكبر في العالم مع نحو 257 طائرة وشبكة نقل تغطي 159 مدينة حول العالم، وأظهرت دبي في رهانها على الريادة جرأة كبيرة وروح ابتكار بحيث كانت دوماً الأولى في إدخال كل جديد ومواكب لأحدث التطورات في العالم، وحققت سبقاً في توفير أفضل مناخات الأعمال والعيش والترفيه واستثمرت في أحدث البنى التحتية في المنطقة ووضعت نفسها على خريطة العالم كمسيِّرة لإحدى أفضل شركات الطيران الدولية ولإحدى أكبر الشركات العالمية المتخصصة في إدارة الموانئ وتميّزت ببناء معلم فريد هو أعلى برج في العالم.

 

 

لكن مشروع "دبي إنك" الجريء كان منذ البدء يشكو من نقاط ضعف أساسية:

الأولى هي أن تصميمه للتكامل بالعولمة ولخدمة الأسواق العالمية يجعله مكشوفاً بنسبة خطرة على الأزمات الشاملة (مثل الأزمة المالية العالمية سنة 2008) والتي قلبت حسابات دبي وأثرت سلباً منذ ذلك الوقت على مداخيلها وقدرتها على خدمة الدين، وقد تمّ تجاوز ذلك الامتحان الصعب وكانت دبي على طريق التعافي التدريجي عندما فاجأتها الهزة الجديدة الأعنف بكثير والتي حملها وباء كورونا وما تبعه من إجراءات إغلاق حول العالم وداخل الإمارة. وغني عن القول إن هذه الإجراءات شلت اقتصاد الإمارة وعرّضتها لأخطر امتحان تمر به منذ انطلاقتها.

نقطة الضعف الثانية التي يشكو منها نموذج دبي هو اعتماده المتزايد على الدين سواء من أجل تمويل أي مشاريع جديدة أو من أجل خدمة الدين العام الذي بات حسب صندوق النقد الدولي يوازي مئة في المئة من الناتج المحلي لدبي. إن قسماً كبيراً من المديونية الحالية لدبي هو جزء من تركة أزمة 2009 التي تمت معالجة بعضها عبر مساهمات أبوظبي السابقة، لكن الكثير منها بقي عالقاً لأن الاقتصاد العالمي لم ينجح في العودة إلى وتيرة النمو السابقة، ولأن دبي لم تقم بعملية تصحيح سريع لنموذج التنمية بحيث يلائم التوقعات السلبية للنمو العالمي وأزمات النفط ويخفف الاعتماد الكبير لاقتصاد الإمارة على العوامل الخارجية. لهذا السبب، فإن اقتصاد دبي فوجئ بكارثة كورونا وهو لا يزال يصارع نتائج أزمة 2009 ، وبالطبع فإن هذا الوضع يحرم دبي من الاحتياطات المالية والموارد اللازمة لاستيعاب الصدمة وإدارة مضاعفاتها لفترة قد تكون طويلة، وهو يجعلها في موقف ضعف في المواجهة المصيرية مع وباء كورونا ونتائجه الكارثية على الصعيدين العالمي والمحلي.

 

 

 

تغيير زلزالي في الاقتصاد العالمي

من أجل فهم الأبعاد الشاملة لموقف دبي وما يتوقع أن تواجهه في الأشهر أو ربما السنوات المقبلة علينا أن نتمعن قليلاً في التغيرات التي تحصل على النطاق الدولي وأسلوب تعامل الدول المختلفة مع الوباء، لأن هناك ترابطاً مباشراً بين هذا الجانب وبين حظوظ دبي في اجتياز الأزمة والبدء في معالجة الأضرار الفادحة التي تسببت بها الأزمة والعودة التدريجية إلى وتيرة نشاط طبيعية.
إن أول ما نلاحظه هو التطورات المتلاحقة التي حصلت في الأيام الأخيرة والمتعلقة بمبادرة دول عدة لبدء فتح أسواقها ومجتمعاتها لأنواع متعددة من النشاط والسماح للناس في معاودة حياة شبه طبيعية، وهذا الاتجاه سجل في أكثر دول العالم وفي دول الخليج التي بات بعضها مثل السعودية يسمح بالصلوات الجامعة في المساجد (ضمن التزام الاحتياطات الواجبة) ومن المتوقع  أن يبدأ الانفراج الدولي في إعطاء نتائج إيجابية تدريجياً على اقتصاد الإمارة، لكن أي تغير إيجابي سيحتاج إلى وقت وإلى توافر عوامل أخرى مساعدة.

من أهم الأمور الذي تحدد حجم التعافي في دبي ووتيرته وحركة الطيران والرحلات الجوية بين دول العالم، لأن حياة دبي اليومية وقطاعاتها المختلفة تعتمد على تدفقات الأشخاص والبضائع إلى الإمارة، وهذه الحركة العابرة للحدود لا تزال متوقفة بنسبة 90 في المئة، وليس واضحاً متى يمكن أن تعود إلى مستويات طبيعية، وأغلب التوقعات تشير إلى أن الأمر قد يأخذ وقتاً طويلاً وأن العودة إلى مستويات ما قبل أزمة كورونا قد تأخذ بحسب منظمة "إياتا" 18 شهراً أو ربما مدة أطول.

بداية انفراج؟

إن توجه الحكومات في العالم إلى تخفيف القيود على النشاطات وتحركات الأشخاص والسيارات أمر إيجابي وربما سينعكس قريباً في ازدياد الحركة باتجاه دبي من الدول الخليجية المجاورة التي بدأت بدورها في إلغاء حالة الحجر وتخفيف القيود على النشاط الاقتصادي وحركة الأشخاص، لكن هناك حاجة إلى بعض الوقت لمعرفة إذا كان فتح الاقتصاد داخل كل دولة والسماح بالرحلات الجوية الداخلية سيمتد إلى فتح الأجواء بين الدول وبالتالي، توفير إطار لمعاودة الرحلات بين الأقطار المختلفة، إذ إن ذلك سيتطلب عمليات تنسيق وتوافق دولي على بروتوكولات موحدة للسلامة والإجراءات الوقائية، وهذا الأمر قد لا يتأخر لأن الضغوط الاقتصادية نفسها التي تدفع بالحكومات إلى رفع القيود داخل اقتصادها ستدفع إلى استكمال ذلك برفع القيود على الانتقال بين الدول.

 

 

 

خليك بالبيت!

لكن تخفيف القيود على الرحلات الجوية الدولية قد لا يترجم بالضرورة في عودة الحركة إلى ما كانت عليه قبل أزمة كورونا، لأن تجربة الأزمة غيّرت كثيراً من موقف المسافرين وبدلت أولوياتهم، فهناك عامل الخوف من الفيروس وكذلك الخوف من المستقبل وكلا العاملين سيدفعان نسبة كبيرة من المستهلكين إلى اختيار وجهات سياحية محلية قريبة أو للتخلي عن فكرة الرحلات السياحية الباذخة والمكلفة أو ببساطة التخلي عن فكرة الرحلة السياحية هذا العام أو العام المقبل، ولا ننسى أن الملايين خسروا أعمالهم ومصدر رزقهم نتيجة لانهيار شركات كثيرة ومؤسسات صغيرة ومتوسطة، وأن الهم الأول لهؤلاء لن يكون في الاستجمام الخارجي بل في البحث عن عمل جديد أو إعادة تجميع المدخرات وبالتالي استعادة قدرتهم المالية بصورة تدريجية في السنوات المقبلة.

كما إن هاجس سلامة السفر الجوي سيبقى موضع امتحان لبعض الوقت، كذلك، لا يمكن لشركات الطيران المخاطرة بتحمل مسؤولية قانونية ومخاطر المطالبات بالملايين في حال حدوث إصابات بـ "كورونا" يمكن تتبعها إلى أي من رحلاتها الجوية، وهذا يعني أن أي عودة للرحلات الجوية الدولية أي العابرة للحدود ستكون بطيئة وعلى مراحل.

تحد مفصلي

في هذه الأثناء، فإن التحدي الذي يواجه دبي يتمثل بصورة أساسية في قدرة الشركات والمؤسسات على البقاء واحتمال ثمن الركود الحالي لمدد قد تطول وهو ما لا يمكن لأكثر المؤسسات العاملة في قطاعات النقل والسياحة والترفيه والعقار تحمله، وقد يعني ذلك اضطرار أعداد من المؤسسات إلى الإقفال وبالتالي تسريح موظفيها. والنقطة المهمة هنا أن العديد من هؤلاء المهددين بخسارة وظائفهم هم من الموظفين المهرة الذين مضى على بعضهم سنوات طويلة في الإمارة، بينما ينتمي الآخرون إلى فئة الكوادر الإدارية أو المالية وأصحاب الأعمال والمهن وهؤلاء سيمثل خروجهم من البلد خسارة لموارد بشرية ثمينة استند اليها نجاح دبي وازدهار اقتصادها.

تنبغي الإشارة هنا إلى أن دبي ودولة الإمارات العربية اتخذ كل منهما إجراءات مهمة استهدفت توفير الحماية للمؤسسات وأصحاب الأعمال لاحتمال فترة الركود فتم تأجيل الإيجارات واستحقاقات الضرائب أو الرسوم، كما تم توجيه البنوك لتمديد مهل الأقساط والتخفيف عن المدينين أو حتى تقديم التسهيلات الضرورية لهم، لكن كل هذه الإجراءات يمكن أن تمد احتمال المؤسسات بضعة أسابيع أو حتى أشهر لكنها لا يمكن أن تغطي فترة ركود طويلة. وهذا هو السبب الذي يؤدي الى تفاهم مع إمارة أبوظبي للمساعدة على استيعاب الضغوط الكبيرة من خلال توفير الدعم المباشر عبر عمليات دمج أو تملك في الشركات ذات النشاط المتشابه وهو ما سيزيد تداخل وتكامل اقتصاد الإماراتين ويعزز مناعة دبي للأزمات في المدى الأطول.

نزيف سكاني

إن احتمالات الإغلاق المخيمة فوق الكثير من المؤسسات العاملة في دبي سينجم عنها تزايد موجة النزوح السكاني من دبي بصورة غير مسبوقة لأن كل العاملين في المؤسسات التي لم تستطع الاستمرار سيكون عليهم، عاجلاً أم آجلاً، ترك البلد والعودة إلى بلدانهم وسيترتب ذلك أيضاً على أصحاب المهن الحرة الصغيرة والخدمات المتصلة بالسياحة والفنادق وقسم كبير منهم سيكون على نصف راتب أو أقل أو ببساطة يتم الاستغناء عن خدماتهم، وتشير تقديرات الاقتصاديين ومصادر غرفة تجارة دبي إلى أن الإمارة قد تشهد تقلص قاعدتها السكانية بنسبة محسوسة، ومثل هذا الخسارة ستمثل تطوراً سلبياً إضافياً لاقتصاد دبي الذي يعتمد بصورة كبيرة على العمالة الأجنبية التي تشكل في الوقت نفسه أكبر قاعدة لاقتصادها الاستهلاكي والخدماتي.

دروس ستبقى

بينما يصارع اقتصاد دبي الأمواج العاتية لأزمة كورونا ويوشك أن يخسر قسماً من النمو الذي حققه عبر السنين، فإن الأنظار ستبقى متركزة خلال السنتين المقبلتين على الاستراتيجية التي ستتبعها قيادة الإمارة لوقف الخسائر وإعادة رسم دورها وخياراتها واستراتيجيتها الجديدة.

إن خيار العودة إلى النموذج السابق لن يكون على الطاولة لأن ذلك النموذج خدم اغراضه، وبالتالي فإن الخيار الأول لدبي سيكون أولاً تثبيت السفينة وسط الأمواج وثانياً الأخذ بدروس أزمة 2009 ثم أزمة كورونا للعمل على "تنحيف" الاقتصاد والسماح باستهلاك قسم كبير من الطاقة الفائضة في مختلف القطاعات والانتهاء باقتصاد أكثر مناعة بسبب اعتماده على مرتكزات القوة والديناميات المحلية والخليجية والمحيط الإقليمي الأوسع، وتخفيف تأثره بالتقلبات الشديدة للإقتصاد الدولي وبـ "العولمة" التي تلقت أصلاً ضربة كبيرة وربما قاضية بسبب فيروس الكورونا.

إن دبي التي أظهرت استباقاً وجرأة في صياغة دورها واقتصادها على قياس الفرص التي فتحها اقتصاد العولمة، قادرة على أن تقوم بحس الريادة والابتكار نفسه على إعادة صياغة هذا الدور على قياس الواقع الجديد الذي ستتكشف فرصه وحدوده في الفترة المقبلة، وقد يكون دور دبي الجديد مختلفاً لكنه سيكون بالتأكيد دوراً مستداماً وعضوياً للمنطقة، ومن أهم نتائج أزمة كورونا (بعد أزمة 2009 السابقة) أننا سنشهد المزيد من الاندماج والتكامل بين دبي وأبوظبي والاقتصاد الإماراتي وعبره الاقتصاد الخليجي، هذا الاقتصاد الضخم الذي يمثل سوقاً لـ 54 مليون مستهلك وكتلة اقتصادية بناتج محلي إجمالي قدره 3.5 تريليونات دولار سنوياً.

دبي الظاهرة تجرأت دوماً على الطموح وقبلت مبدأ أنه لا يتحقق نجاح من دون القبول بهامش مخاطرة، وهذا المزيج من الخيال والجسارة سيلعب دوره مجدداً في ولادة دبي جديدة قوية واستمرار وظيفتها الأساسية في تطور الاقتصاد الخليجي ومكانته في العالم.