خبراء لبنانيون: هذه حلول الخروج من الأزمة

  • 2019-11-15
  • 10:52

خبراء لبنانيون: هذه حلول الخروج من الأزمة

لم يعد هناك أدنى شك بأن لبنان يعيش واحدة من أسوأ أزماته، وهي أزمة متشعبة تتداخل فيها السياسة مع الاقتصاد، في ظل غياب أي رؤية واضحة لإيجاد حلول تضع حداً لتدهور الأوضاع الاقتصادية على وجه الخصوص. هذا الواقع دفع بعدد من الاقتصاديين وعلماء السياسة والقضاة اللبنانيين إلى دق ناقوس الخطر، مطلقين الصرخة حول ضرورة التحرك بشكل سريع وبطرق محددة لتجنب خطر الانهيار المالي والاقتصادي، إذ أن الفشل في وضع حد لتفاقم الازمة سيؤدي إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية بشكل تصاعدي، وإلى زيادة معدلات التضخم والفقر والبطالة، وهذا يعني المزيد من التدهور في الخدمات الأساسية في البلاد.

هكذا كان اجتماع الساسة مع الاقتصاديين والقضاة اللبنانيين في بداية الشهر الحالي. أما الهدف فكان بلورة رؤية موحدة حول التحديات التي تعيشها البلاد والتي لم يعد بالإمكان السكوت عنها. اجتماع خلص إلى إطلاق مجموعة من التوصيات حول كيفية التعامل مع القضايا المالية العاجلة والتحديات الاقتصادية التي تواجه لبنان في المرحلة الراهنة، أبرزها:

أولاً: إدارة حذرة للاحتياطات الأجنبية التي تتقلص بشكل سريع لحماية استقرار الليرة اللبنانية، وذلك عبر وضع تدابير أكثر صرامة للسيطرة على رأس المال.

ثانياً: تعديل مالي جذري مع وضع خطط موثقة لمكافحة الفساد.

ثالثاً: وضع سياسات اجتماعية جديدة لحماية الفئات الأكثر تضرراً من الازمة الحالية.

رابعاً: وضع خطة لتخفيض الديون متفق عليها مع تقاسم عبء عادل في المجتمع.

خامساً: وضع آلية مراقبة تسمح للسكان بالضغط لتنفيذ هذه الإصلاحات، في الوقت الذي يتم فيه تعزيز آليات الرقابة الحكومية.

وإذ أكد المجتمعون أن هناك ضرورة قصوى لتشكيل حكومة جديدة تمنح الثقة للناس، أشاروا إلى بعض الإجراءات التي لا يمكن أن تنتظر طويلاً، وعليه لا يجب أن تكون أسيرة للأحداث والتطورات السياسية في البلاد، مشددين أنه على حكومة تصريف الأعمال أن تشكّل خلية أزمة لمعالجة هذه الأمور الطارئة.

ولفت المجتمعون النظر إلى أن إمكانيات الاقتصاد اللبناني ستكون ضعيفة على المدى الطويل، موضحين في هذا السياق، أن وضع نظام حوكمة أكثر فاعلية سيكون أمراً حاسماً لجهة السماح للبنان بتصدير السلع والخدمات. وأضافوا أنه يمكن لنموذج النمو الشامل أن يتنوع ليس في مجال السياحة والخدمات المالية فقط، بل في مجالات التصنيع والتكنولوجيا المتقدمة والزراعة المسؤولة والإنتاج الثقافي. كما يجب أن تكون العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين واحترام البيئة جوهر هذا النموذج، فضلا عن المنافسة على الابتكار والانفتاح على العالم، والاغتراب اللبناني.

أزمة طويلة

يعود ارتفاع الاختلال في التوازن المالي في لبنان إلى عنصرين: عبء الخدمة المتزايد وإعادة تمويل الدين العام من جهة والى الانخفاض الحاد في صافي تدفقات رأس المال التي كانت تمول العجز في الحساب الجاري وخدمة الديون المقومة بالدولار الاميركي من جهة اخرى. ويرتبط هذان المصدران ارتباطًا وثيقًا ببعضهما ويؤديان إلى نضوب سريع لاحتياطيات النقد الأجنبي، وعليه فإن الخوف من الانهيار المالي يقلل من التدفقات المالية ويؤدي الى هروب رؤوس الأموال إلى الخارج، كذلك فإن التدفقات الصافية المنخفضة أدت إلى جعل الدين العام أكثر خطورة، الأمر الذي يجعل من إعادة التمويل بشروط معقولة عملية صعبة.

فالأزمة المتفاقمة انعكست على ارتفاع سريع لأسعار الفائدة التي بلغت أكثر من 15 في المئة مع ارتفاع التكاليف إلى أن أحدث مصرف لبنان ما يسمى بالمقايضة (Swap)، والتي تهدف إلى جذب ودائع بالعملات الأجنبية، والانخفاض السريع لقيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في السوق غير الرسمية، وارتفاع التضخم بنسبة 5 في المئة على السلع الاستهلاكية الأساسية بحسب تقديرات معهد البحوث والاستشارات في لبنان.

وفي ظل غياب السياسات التصحيحية، سيستمر مصرف لبنان في تخفيض قيمة العملة خلال الفترة المقبلة، مع إمكانية خروجه عن السيطرة إذا نفدت الاحتياطيات الأجنبية. ففي أيلول/ سبتمبر الماضي، بدأ المركزي اللبناني بتقنين بيع الدولار في الأسواق المحلية، وارتفعت هذه العملية بعد أن تبين له أن وضع سياسات حكومية جديدة للحد من الاختلالات المالية عبر زيادة ضرائب غير مباشرة والحد من الخدمات العامة، أصبحت غير مقبولة عند المواطنين اللبنانيين نظرا لتدهور الوضع الاجتماعي في البلاد. وفي هذا السياق، أشار البنك الدولي في أحد تقديراته إلى أن نسبة المواطنين اللبنانيين الذين يعيشون في الفقر وصلت الى 30 في المئة مع ارتفاع كبير بنسبة البطالة، بالإضافة إلى زيادة الهجرة للطاقة الشابة. وبعد أن وضعت الحكومة ورقة اقتصادية اصلاحية بعيد اندلاع ثورة 17 تشرين الأول/اكتوبر، لم يقتنع المتظاهرون بها خصوصاً أنها احتوت على عناصر جيدة منها، الحد من خسائر شركة كهرباء لبنان، وفرض ضرائب جديدة على القطاع المصرفي، وهذا الأمر جيد بخاصة أن الضريبة المتوقعة (600 مليار ليرة) هي ضريبة "one shot tax" وصغيرة مقارنة بالأرباح الهائلة التي حققها القطاع خلال سنوات طويلة، وذلك بالإضافة إلى غيرها من المواضيع الإصلاحية.

ورأى المجتمعون أن هذه الخطة غير كافية وتضع عبئاً كبيراً على تعديل سعر صرف الليرة وتضر بشكل أساسي العائلات ذات الدخل المتوسط.

 

الدفاع عن الليرة اللبنانية في المدى القصير

ان تخفيض قيمة الليرة اللبنانية سيؤدي إلى تخفيف عبء الدين العام المتراكم عن طريق المسح من القيمة الحقيقية لليرة، وهو ما يقارب 60 في المئة من الدين العام. وفي حين أن هذه إحدى الطرق لتخفيف عبء الدين العام، إلا أنها ستشكل عبئاً اجتماعياً كبيراً، وستقضي بذلك على صناديق الرواتب التقاعدية ومدخرات الطبقة الوسطى وانخفاض الأجور. كما أنها ستؤدي إلى حالات إفلاس للشركات المستدينة بالدولار، الأمر الذي سيرفع من نسبة البطالة وإضعاف القطاع المصرفي، ويشكل ضرراً كبيرأ لحالات النمو الاقتصادي في المستقبل. وفي هذا الإطار، رأى المجتمعون أنه يجب إعطاء فرصة للقوى السياسية والاجتماعية لوضع خطط اقتصادية واجتماعية مناسبة للتعامل بها مع المرحلة الحالية. وعليه يدرك المجتمعون أن حماية الليرة مهم جدا قبل إعادة تأسيس ثقة السوق، لكن السماح بتخفيض قيمة العملة الوطنية بطريقة غير منضبطة سيخلق أزمة حقيقية. وعليه فإن أفضل طريقة للدفاع عن قيمة الليرة هو عبر إطلاق الإصلاحات اللازمة في أقرب وقت ممكن من أجل تحسين المصداقية بسرعة في البلاد.

وضع خطة سريعة لتعديل مالي موثوق

شدد المجتمعون على أنه في المدى القصير، يجب وضع سياسات ضرورية لتحقيق الاستقرار في الوضع المالي من خلال الاتفاق على تخفيضات عميقة في النفقات غير الفعالة والمرتبطة بالفساد وسوء الإدارة، انطلاقاً من الإصلاح العاجل لقطاع الكهرباء. وينبغي أن تكون هذه التدابير السريعة مترافقة مع قرارات في شأن تنفيذ الإصلاحات المؤسسية.

وأشاروا إلى أنه على الرغم من أن آثارها ستكون على المديين المتوسط ​​والطويل، إلا أنها ضرورية لاعطاء الحكومة مصداقية كبيرة. وأكدوا أنه إلى جانب النفقات، يتعين على الحكومة أن تقوم باسترداد الأموال العامة المسروقة وإعادة هيكلة المؤسسات العامة بما في ذلك دمج أو إلغاء تلك الزائدة عن الحاجة، والحد من الأجور وفوائد كبار موظفي القطاع العام. وفي مجال الايرادات العامة، على الحكومة ان تبدأ باصلاحات لتوحيد نظام ضريبة الدخل والحد من التهرب الضريبي وتوسيع القاعدة الضريبية، لا سيما عن طريق إزالة الإعفاءات الضريبية عن القطاعات والشركات.

إعادة هيكلة الديون

أكد المجتمعون أنه على الرغم من أن الجهود المطلوبة ضرورية لتحسين جودة النفقات وتقليل العجز المالي، فإنها لن تكون كافية لوضع الدين العام على طريق مستدام. ففي عمليات

على الرغم من أن هذه الجهود ضرورية لتحسين جودة النفقات وتقليل العجز المالي، فإنها لن تكون كافية لوضع الدين العام على طريق مستدام. وفي عمليات صندوق النقد الدولي الحسابية، فإنه إذا أراد لبنان أن ينجو من وضعه الحالي الغارق في الديون، فذلك سيتطلب فائضًا ماليًا أوليًا (وهو الرصيد المالي باستثناء خدمة الدين) بنسبة 5 في المئة سنويًا لمدة 20 عامًا متتاليًا، لكن هذا القرار لم ينفذ في أي بلد حول العالم من قبل وعليه يمكن القول بأنه غير واقعي.

وأشار المجتمعون إلى أن تسويق بعض الفعاليات الاقتصادية لخفض سعر الفائدة على الدين العام والذي يؤدي الى تخفيف الضغوط المالية القائمة، يسير في الاتجاه الصحيح ويؤدي الى تخفيف الضغط عن الليرة. ولكن نظرًا لأن الاستثمارات العامة والخاصة تتطلب أفقًا للتخطيط لفترة أطول، هناك حاجة أيضًا إلى مزيد من الوضوح في شأن المستقبل حتى يتم التمكن من تحرير الائتمان بحيث يتحول إلى استخدامات مثمرة، وخلق مساحة مالية لسياسة مالية أكثر شمولاً. ورأى المجتمعون ان التدابير المؤقتة برغم ضروريتها في المستقبل القريب، فإنها لم تعد كافية. وشددوا على ضرورة النظر بتخفيض الديون في الوقت الحالي إذ أن الدين العام في لبنان يتجاوز 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يعتبر الحد الآمن المعترف به دوليًا عند 50 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وينبغي أن تكون أول وآخر مرة يلجأ فيها لبنان إلى تخفيض ديونه. لذا يجب إعادة هيكلة الديون بعناية لتلائم ظروف لبنان المحددة.

السيطرة على رأس المال

أوصى المجتمعون بفرض نظام عاجل لضوابط رأس المال على نحو مؤقت ليس فقط لمكافحة رأس المال الفاسد، كما هو موصى به من قبل العديد من الجهات، لكن أيضًا لتقليل الضغوط على الليرة الناتجة عن هروب رأس المال. إن السيطرات اللينة على رأس المال أبطأت الضوابط من التدفقات الخارجية ، لكنها خلقت حوافز للحصول على الفساد ، مما سمح لرأس المال المؤثر بالهروب ، مع محاصرة مدخرات المودعين العاديين.

وبالنسبة إلى الخصخصة، فقد اعترض المجتمعون على هذا الأمر في الفترة الراهنة وذلك نظراً لانخفاض السيولة وانعدام عامل الثقة. وبرأيهم فإنه على الرغم من أن إجراء بعض عمليات الخصخصة ضروري جداً، فإنها تحتاج إلى استقرار سياسي واقتصادي مع توفر آليات رقابة أفضل.

وضع تدابير اجتماعية لازمة

إلى ذلك، أوصى المجتمعون بوضع تدابير اجتماعية على الفور لمساعدة المستضعفين في قطاعات السكان على التكيف مع البيئة الحالية والناشئة، مشددين على أهمية الاستثمار بسرعة في آليات السيطرة الحكومية التي يتم إفسادها وإضعافها بمرور الوقت. وتحقيقاً لهذه الغاية يجب ضمان استقلال القضاء من خلال تعزيز المحاكم المختصة ووكالات المشتريات المخولة بإخضاع جميع العقود العامة لمناقصة شفافة وتنافسية؛ والجهات الرقابية العاملة في قطاعي الكهرباء والاتصالات. بالإضافة إلى هذه الإصلاحات، والتي من شأنها أن تعمل على محاربة الفساد، هناك حاجة إلى إنشاء آلية واضحة لاسترداد الأموال العامة المسروقة وكذلك تقييم ومراجعة المشروعات الممولة من القطاع العام بسبب الممارسات الخاطئة. ونصح الخبراء بضرورة إنشاء عاجل لآلية مراقبة تشاركية لأداء الحكومة بما في ذلك مصرف لبنان وضرورة تفعيل القانون الحق بالوصول إلى المعلومات. كما نصحوا بضرورة إجراء عمليات تشاور مع أصحاب المصلحة الرئيسيين لبناء توافق في الآراء في شأن حزمة الإنقاذ، بما في ذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي، جمعيات رجال الأعمال والنقابات والحركات العمالية المستقلة، والمجتمع المدني والمنظمات.

 

لبنان بحاجة الى كل دعم خارجي يستطيع الحصول عليه

وفي المحصلة، أكد المجتمعون على أن الدعم الخارجي للبنان سيكون قيمة كبيرة في دعم كل الجهود في سبيل تحسن أوضاعه، ذلك أن الدعم المالي الطارئ على المدى القصير من شأنه أن يعزز الاحتياطات الأجنبية، ويساعد على استقرار سعر الصرف الثابت، وتجنب الإفراط في إطلاق النار المحتمل لسعر الصرف. وأشاروا إلى أن الدعم على المدى المتوسط يقلل من الآثار الاجتماعية السلبية المرتبطة بالإصلاحات اللازمة.

وإذ أوضحوا أن الالتزام الدولي الحالي يمكن أن يلعب دوراً مفيداً في تحسين آفاق النمو. أكدوا وجوب أن تكون هذه الالتزامات مناسبة مع الوضع الحالي، بما في ذلك من توفير المزيد من الدعم للتدابير اللازمة على المدى القصير، ومناقشة مدى استصواب وجود صندوق داعم لصندوق النقد الدولي.

وختم المجتمعون بالدعوة إلى تشكيل حكومة تكون ذات مصداقية يمكنها أن تلهم الثقة وتحد من المخاطر الكارثية التي تلوح في الأفق، فوراً. واعتبروا ان على مجلس الوزراء البدء بردم هوة الثقة بينه وبين شعبه، وكذلك مع المجتمع الدولي، واتخاذ القرارات المصيرية اللازمة للحفاظ على الصالح العام.