بعد الإنسان.. كورونا يختبر مناعة اقتصاد العولمة

  • 2020-03-09
  • 09:01

بعد الإنسان.. كورونا يختبر مناعة اقتصاد العولمة

  • الياس بارودي

في كتابها الشهير ((The Coming Plague أو "الوباء القادم" والذي صدر سنة 1994 رأت لوري غاريت أنه "فيما يتناحر ويتنافس الجنس البشري على بقاع الأرض التي تزداد ازدحاماً وعلى الموارد الطبيعية المتناقصة، فإن دفة الغلبة أخذت تنتقل إلى الميكروبات والفيروسات التي أضحت الضواري الرئيسية التي تواجه الإنسان". أما ديفيد والاس ويلز فقد أوضح في كتابه الأخير والمقلق جداً (The Uninhabitable Earth) أو "الأرض غير المواتية للعيش" أن الميكروبات والفيروسات ستتزايد وتتشعب وتزداد قوة مع ارتفاع حرارة الأرض، وأن منها ما هو موجود على الأرض منذ ملايين السنين وغير معروف من قبل، سيظهر للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية من تحت الذوبان المتسارع للجليد القطبي والأنهر الجليدية.

والأوبئة العشرة الأكبر في التاريخ المعروف قتلت ما لا يقل عن 300 مليون إنسان منها الوباء الذي حدث خلال أيام الإمبراطور الروماني جوستنيان والذي قضى على نصف سكان أوروبا في حينه وثم الطاعون في العصور الوسطى الذي قتل نحو 200 مليون شخص في أوروبا وأفريقيا وآسيا.

 إنها أحداث غيرت في تاريخ الإنسانية بدون شك وهي استمرت وستستمر بالرغم من كل التقدم العلمي والحضاري والاجتماعي. فالوباء المعروف بالإنفلونزا الإسبانية خلال السنوات 1918-1920 قتل ما بين 30 و 50 مليون نسمة في مختلف أنحاء العالم بل ربما 100 مليون نسمة حسب بعض التقديرات، أي أكثر من جميع قتلى وضحايا الحرب العالمية الأولى. ثم كان هناك وباء الأنفلونزا الآسيوية (1956-1958) وأنفلونزا هونغ كونغ (1968) ووباء الإيدز (2005-2012) ووباء الايبولا الذي حدث في أفريقيا لعدة مرات وإن ضمن حدود ضيقة.

 وهنا لعله يمكن القول في ضوء كل ما سبق أن وباء كورونا الحالي هو أقل خطورة من الأوبئة السابقة إذ تقدر نسبة الوفيات حالياً بنحو 2 في المئة من المرضى، علماً أن خطره والوقع النهائي له سيعتمد على مدى انتشاره وبالتالي على العدد الكلي للوفيات التي ستنتج عنه.

 خطورة الأوبئة: أبعاد جيوسياسية  

 وبانتظار ذلك ونتائج الجهود المتسارعة للحد من هذا الانتشار وحيث أنه لا بد من الاستنتاج بأن الأوبئة، ستبقى حقيقة ملازمة للحياة، فإن خطورتها اليوم وفي المستقبل لا تكمن فقط على حياة الإنسان، وإنما أيضاً في أبعادها الجيوسياسية وخصوصاً الاقتصادية. فالمفارقة الرئيسية هي أن تطور الاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة على الأقل، والنمو والتوسع السريع في "القرية العالمية"، من حيث ما يعني انفتاح الاقتصادات والأسواق على بعضها البعض وترسخ سياسات التجارة الحرة ونشوء شبكات انتاج متناسقة ومعقدة للصناعات والخدمات بين الدول، وسرعة انتقال الأشخاص، والفورة الكبيرة في حركة السفر والسياحة العالمية أدى إلى منافع كبيرة وغير مسبوقة من حيث تطور مستويات المعيشة والتقدم الاجتماعي والثقافي والنمو السريع في اقتصادات الدول النامية وحديثة التصنيع، لكنه خلق أيضاً بيئة مثالية للانتشار السريع للأوبئة من ناحية، وزاد في ناحية أخرى من خطورة وحدة عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي في مواجهة أزمات كبرى.

 ومقارنة بين وباء سابق في العصر الحديث وما يحدث اليوم، قد تكون مفيدة ومعبرة في هذا المجال. وباء الإنفلونزا الإسباني الذي سبقت الإشارة إليه أصاب نحو ثلث سكان الأرض في حينه أو نحو 500 مليون شخص، وامتد إلى أكثرية أرجاء العالم. وهناك تقديرات بأنه أدى إلى خسائر إجمالية تصل إلى 3 تريليون دولار وخفض الإنتاج الاقتصادي العالمي بنحو 4.8 في المئة. لكن الواقع الاقتصادي تباين بشكل أساسي بين دولة وأخرى حيث لم يكن هناك ترابط وتشابك يذكر بين اقتصادات الدول التي غزاها الوباء. ففي الولايات المتحدة شكت المصانع والمؤسسات من نقص العمالة بسبب الوفيات أو تغيب العمال فانخفض الإنتاج الصناعي والزراعي وأقفلت شركات أبوابها كما تأثرت الخدمات العامة الأساسية، لكن أثر كل ذلك على سوق الأسهم الأميركية كان محدوداً نسبياً فانخفضت السوق قليلاً في مرحلة أولى لتعود إلى الارتفاع في أشهر صيف 1918 ثم انخفضت بنحو 11 في المئة في مرحلة ثانية لتعود إلى الارتفاع بسرعة مع انحسار الإنفلونزا.

 الدول الأوروبية عانت إلى حد أكبر من الولايات المتحدة خصوصاً أنها كانت أيضاً في مراحل التعافي الأولى من الحرب العالمية الأولى. ولا تتوفر معلومات كافية حول أوضاع الدول الآسيوية والشرق آسيوية لكنه في الصين مثلاً، والتي كانت علاقاتها محدودة جداً مع الغرب في ذلك الوقت فإن المعلومات المتوفرة تشير إلى أن الوباء تركز في المناطق الريفية ولم يكن له أثر يذكر خارج الصين التي كانت معزولة تقريباً عن العالم.

إنفلونزا هونغ كونغ 1968

وكمثال آخر هناك وباء الأنفلونزا الذي حدث في العام 1968 والمعروف بإنفلونزا هونغ كونغ والذي انتشر من هونغ كونغ إلى عدة دول آسيوية وثم إلى أستراليا وأوروبا والولايات المتحدة. ورغم أنه أدى إلى وفاة نحو 500 ألف شخص في هونغ كونغ أو نحو 15 في المئة من عدد السكان في حينه فإن آثاره على الاقتصاد العالمي وحتى الإقليمي بقيت محدودة نسبياً.

 وبالمقارنة، فبرغم انتشار كورونا على 78 دولة حتى الآن يبقى عدد الإصابات وهو 93,567 إصابة حتى يوم 4 آذار/مارس المنصرم وهو ما يمكن اعتباره عدد غير مخيف مقارنة بالأوبئة السابقة فيما بلغ عدد الوفيات 3,204 شخص منهم نحو 86 في المئة في الصين التي أعلنت أخيراً عن بدء انخفاض أعداد المصابين الجدد لديها. وفي رأي أخير لهم رأى عدد من العلماء الأميركيين أن نسبة الوفيات من كورونا ستكون في نهاية الأمر أقل من 1 في المئة وهو ما يتساوى مع نسبة الوفيات من الأنفلونزا العادية.

لكن هكذا تطمينات لم تجدِ نفعاُ في وجه حالة شبه الرعب المسيطرة والتي بالإضافة إلى الخطوات والسياسات التي اتخذت لاحتواء الوباء وعزله، انعكست بشدة على وضع الاقتصاد العالمي، بما يثير تساؤلات حول عوامل عدم استقرار مقلقة كامنة في هيكلية الاقتصاد العالمي الجديد الذي بني في العقود الماضية والذي قد يواجه تحديات كبرى وربما وجودية في السنوات والعقود المقبلة.

تطورات بارزة

فبعد أقل من شهرين من اكتشاف فيروس كورونا في الصين وبدء انتشاره، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن تسجيل التطورات التالية:

  1. انخفضت مؤشرات سوق الأسهم في نيويورك بأكبر نسبة منذ الأزمة المالية العالمية في 2018، وترافق أو تبع ذلك تراجع كبير في الأسواق العالمية الأخرى.
  2. قرر بنك الاحتياط الفدرالي تخفيض سعر الفائدة الأساسي في الولايات المتحدة بأكبر هامش منذ الأزمة العالمية أيضاً.
  3. العديد من الشركات الأميركية والغربية يعاني من نقص في الانتاج بسبب اعتماده على الإنتاج نصف المصنع والمصنع في الصين حيث اضطرب أو توقف إنتاج المصانع هناك. وما هذا إلا انعكاس بسيط لتقطع سلاسل التوريد العالمية.
  4. نحو 25 في المئة من القوى العاملة في الصين لا تعمل أو أصبحت عاطلة عن العمل.
  5. شركات الطيران العالمية تلغي آلاف الرحلات بما يهدد بانتهاء الفورة الكبيرة في حركة السفر العالمية في السنوات الأخيرة، بخاصة في ضوء التوقعات أيضاً بأن العطلات الصيفية ستتأثر هذه السنة إلى حد كبير. علماً أنه من المتوقع أيضاً أن تنخفض إيرادات شركات الطيران عالمياً بنحو 5 مليار دولار.
  6. مبيعات السيارات في الصين انخفضت 8 في المئة في شهر كانون الثاني/فبراير الماضي.
  7. الطلب على النفط إلى انخفاض حيث توقعت وكالة الطاقة العالمية أن يصل هذا الانخفاض إلى نحو 435 ألف برميل في اليوم في الربع الأول من 2020 مقارنة بالفترة المماثلة من 2019، هذا في الوقت الذي تدهور فيه أيضا سعر النفط إلى 50 دولار للبرميل أو أقل وبدأت الأوبك تدفع بإتجاه خفض الإنتاج.
  8. تأجيل وإلغاء المعارض والمهرجانات والمؤتمرات العالمية التي تستقطب ملايين المشاركين من مختلف أنحاء العالم.

 

وفي المحصلة، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بأن يتراجع النمو العالمي 0.5 في المئة في 2020 إلى 2.4 في المئة وهي أدنى نسبة نمو منذ العام 2008، أي سنة الأزمة المالية العالمية.

وبانتظار ما ستأتي به المرحلة القريبة المقبلة من تداعيات وتطورات، فإنه لا بد من التساؤل اليوم كيف سيواجه الاقتصاد العالمي التحديات الكبيرة المقبلة المناخية والبيئية والسكانية وغيرها. ولعل فيما قاله كبير الاقتصاديين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بأنه على الشركات الأكبر في العالم أن تعيد تقييم ودراسة كيف تعمل في الاقتصاد المعولم، جزء بسيط من الإجابة.