من الذهب إلى البيتكوين: كيف تُنوع البنوك المركزية احتياطاتها؟

  • 2025-10-17
  • 13:26

من الذهب إلى البيتكوين: كيف تُنوع البنوك المركزية احتياطاتها؟

  • كتب فيصل أبوزكي

 قبل أكثر من نصف قرن، وتحديداً في صيف العام 1971، غيّر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مسار التاريخ المالي حين أعلن وقف تحويل الدولار إلى ذهب. في لحظة واحدة انهار نظام "بريتون وودز"، وتحول المال من معدن يُوزن إلى ورق يُطبع، ومن قيمة مضمونة إلى ثقة سياسية في الاقتصاد الأميركي. منذ ذلك اليوم، أصبح الدولار قلب النظام المالي العالمي، والبنوك المركزية في كل مكان بنت احتياطاتها على إيقاعه. لكن العالم الذي كان يتجه نحو وحدة او عولمة مالية بدأ اليوم يتجه نحو التعدد، وربما نحو التفتت.

في العقد الأخير، ومع تصاعد الأزمات المالية والتوترات الجيوسياسية، أعادت البنوك المركزية التفكير في جوهر احتياطاتها: من ماذا تتكون؟ ولماذا؟ وكيف تحافظ على قيمتها في عالم بات فيه القرار المالي سلاح سياسي؟ هذه الأسئلة لم تعد نظرية، بل باتت تحكم سلوك الأسواق وتوجهات الدول.

زمن الذهب يعود...من بوابة الأمان

الذهب، الذي كاد يُنسى في عصر العوائد والأسواق الإلكترونية، عاد إلى الواجهة كأصل استراتيجي. وبحسب مجلس الذهب العالمي، اشترت البنوك المركزية أكثر من ألف طن من الذهب في العام 2024 وحده، وهي أكبر كمية تُسجل منذ نصف قرن، والسبب ليس طمعاً في الربح، بل بحثاً عن الأمان، فالذهب لا يمكن تجميده أو حظره أو التلاعب به كما يتم بالاصول المالية مثل العملات والسندات والاسهم. هو الأصل الذي لا يعتمد على توقيع أو نظام أو خادم إلكتروني. في عالم يتزايد فيه استخدام العقوبات الاقتصادية، أصبحت السبائك الصفراء درعاً سيادياً ضد الضباب الجيوسياسي.

تجميد الاحتياطات الروسية...الصدمة التي غيّرت قواعد اللعبة

إن تجميد جزء كبير من احتياطات روسيا بالدولار واليورو في العام 2022 كان لحظة فارقة أعادت تعريف معنى "الأمان المالي"، وقد أطلقت العقوبات الغربية على روسيا ما يشبه مفعول الدومينو: المزيد من البلدان بدأت تفكر في كيفية حماية أموالها من أي تجميد محتمل.

اكتشفت الدول أن امتلاك الأصول في النظام الغربي قد لا يكون ضماناً كافياً وأن هناك حاجة لبناء احتياطات لا تطالها بسهولة منظومة العقوبات. ومن هنا اتجهت الصين وتركيا والهند وعدد من الدول الناشئة إلى زيادة حيازتها من الذهب، ليس كمضاربة، بل كتحوط من المستقبل. في الوقت نفسه، بدأت موجة تنويع واسعة في أماكن الحفظ ونوعية الأصول، وأُطلقت مفاهيم جديدة مثل "الاحتياطات متعددة المراكز" و"التحوّط الجيوسياسي بالذهب".

 هل يفقد الدولار عرشه أم يتكيف؟

ورغم عودة الذهب، لا يزال الدولار هو الملك. لكنه ملك بدأ يفقد بعض سلطاته. بيانات صندوق النقد الدولي تُظهر أن حصة الدولار من الاحتياطات العالمية انخفضت من أكثر من 70 في المئة في نهاية القرن الماضي إلى أقل من 58 المئة في 2024. هذا التراجع لا يعني انهيار الهيمنة الأميركية، بل يعكس رغبة عالمية في التنويع، خصوصاً بين الدول الآسيوية والناشئة التي تبحث عن قدر أكبر من الاستقلال المالي. فاليورو لم يستطع ملء الفراغ، واليوان الصيني ما زال محدود الانتشار بسبب القيود المفروضة على حركة رؤوس الأموال.

ترجح بعض التوقعات الحالية أنه بحلول العام 2040 سيحتفظ الدولار بما بين 50 و 52 في المئة من الاحتياطات العالمية، بينما يتقدم الذهب إلى نحو 20 في المئة من الإجمالي، ويستحوذ اليورو على حصة ما بين 18 و20 في المئة، في حين يزيد اليوان الصيني  حصته الى ما بين 7 الى 10. وستظل للأصول الرقمية حصة رمزية لا تتجاوز ما بين 2 الى 4 في المئة، لكنها قد تكون رمزية بمعناها الأعمق: إشارة إلى أن شكل المال نفسه تغيّر. إن أهمية هذه التوقعات ليست بمدى دقتها بل بقدر ما تحاول ان تخبرنا به وهو أننا مقبلون على تنويع أكبر في الاحتياطات العالمية وأن العالم يتجه تدريجياً نحو نظام نقدي متعدد الاقطاب، حيث يظل الدولار في الصدارة، لكن ترتفع إلى جانبه أدوار عملات واصول أخرى في دوائر محددة من النفوذ.  

البيتكوين يدخل المشهد الرسمي: تمرد يتحول الى نظام؟

وفي خضم هذه التحولات، برز حديث غير متوقع عن دخول الأصول الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين، إلى عالم الاحتياطات الرسمية. وبحسب تقرير حديث صادر عن "دويتشه بنك" نقلته "بلومبرغ"، قد تبدأ بعض البنوك المركزية بحلول العام 2030 بالاحتفاظ بالبيتكوين إلى جانب الذهب ضمن احتياطاتها. يبدو الأمر غريباً، فكيف يمكن لعملة وُلدت كتمرد على النظام المالي أن تتحول إلى جزء من هذا النظام؟ إلا أن المنطق السياسي والاقتصادي يفسر الامر: في عالم يتزايد فيه استخدام العقوبات وتقل فيه الثقة بالأنظمة المالية القائمة، تبحث الدول عن أصول محايدة لا يمكن السيطرة عليها أو تجميدها. لقد تلقت العملات الرقمية دفعاً قوياً من الإدارة الأميركية الحالية تمثل باصدار قانون (Genius Act) لتنظيم ما يسمى بالعملات المستقرة المربوطة بالدولار، كما إن الرئيس الاميركي، دونالد ترمب، أصدر في مطلع العام 2025 قراراً تنفيذياً  بإنشاء "احتياطي استراتيجي للبيتكوين" ومخزوناً للأصول الرقمية الاخرى.

 لكن الطريق إلى هناك ما زال طويلاً. فالبيتكوين يعاني من تقلباتٍ حادة في السعر، ولا يملك إطاراً قانونياً واضحاً في معظم الدول، كما إن المعايير الدولية مثل "بازل" تفرض قيوداً صارمة على انكشاف البنوك للأصول المشفرة، ما يجعل استخدامها الرسمي محدوداً في المدى القريب. ومع ذلك، فإن مجرد طرح الفكرة في أروقة البنوك المركزية يرمز إلى تحول في النظرة إلى الثقة:  لم تعد الثقة حكراً على الدولار، ولا حتى على الدولة، بل بدأت تمتد إلى الأصول اللامركزية التي لا يمكن إخضاعها.

 ما بعد الأحادية المالية: تعدد المراكز وتوزيع القوة النقدية

العوامل التي تدفع بهذا الاتجاه تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة. فالنظام المالي أصبح اليوم أحد أسلحة القوة الجيوسياسية. ومع تنامي الصراعات بين الغرب وروسيا والصين، تحاول الدول تحييد نفسها مالياً. إن الصين، ومن خلال توسيع استخدام اليوان في المبادلات التجارية عبر مبادرة "الحزام والطريق"، تبني ببطء بنية تحتية مالية موازية، وهي اطلقت نظاماً للمدفوعات خارج الدولار (CIPS) في 2015 بدعم من البنك المركزي الصيني، كما إن روسيا، المحرومة من النظام الغربي، لجأت إلى الذهب واليوان. والهند وتركيا والبرازيل تسعى إلى توسيع التسويات بالعملات المحلية. حتى الدول الحليفة لواشنطن بدأت تفكر بتوزيع أصولها في مواقع مختلفة تجنباً للمفاجآت. هذه الاتجاهات تشكل تدريجياً ما يمكن تسميته باقتصاد بعد الأحادية المالية"، حيث لم يعد من الممكن لأي عملة أن تحتكر الثقة العالمية.  

عام 2040: شكل المال يتغيّر لا جوهره

التحول المقبل لن يكون في نوع الأصول بل في شكلها، فالتقدم السريع في التقنيات المالية يعني أن الاصول التقليدية، مثل سندات الخزانة والذهب، ستُدار وتُتداول بطرق رقمية جديدة. بحلول 2040، قد تصبح معظم الاحتياطات على شكل أصول مُرمزة (Tokenized Assets)  تُسوى عبر شبكات رقمية بين البنوك المركزية، ما يقلل تكاليف التسوية ويزيد الشفافية والسرعة. هنا يتحول مفهوم الاحتياطي من "مخزون نقدي" إلى "أصل رقمي سيادي"، أي أن الثقة تنتقل من الورق إلى الرمز.

في هذا العالم الجديد، ستكون العلاقة بين الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. إن ارتفاع الدين الأميركي وتأرجح النمو، إلى جانب المنافسة الصناعية بين واشنطن وبكين، قد يعيدان تشكيل بنية الأسواق المالية. وفي الوقت ذاته، ستسهم الرقمنة في إعادة توزيع النفوذ المالي بين الدول، ليس بناء على حجم احتياطاتها فقط، بل على كفاءة إدارتها الرقمية لهذه الاحتياطات.

بين الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة… عقدٌ من التحولات العميقة

كل هذه التطورات تجعل السؤال مفتوحاً: هل يمكن أن يفقد الدولار مستقبلاً مركزه كعملة الاحتياط الأولى؟ وهل سيصبح الذهب والبيتكوين وجهين لعصرين مختلفين من الثقة؟ أم أن النظام الحالي سيتكيف من دون أن يتغير جوهره؟

الجواب الأرجح أن العالم لن يشهد ثورة مفاجئة في النظام المالي، بل تحولاً تدريجياً عميقاً. فالتاريخ يُعلّمنا أن الأنظمة النقدية لا تسقط، بل تتآكل حتى تُستبدل. وفي الوقت الذي تُعيد فيه البنوك المركزية ترتيب خزائنها، من الذهب إلى الدولار إلى الأصول الرقمية، فهي لا تغير عملتها فقط، بل تغير فلسفة الأمان نفسها. لم تعد الثقة في عملة أو دولة، بل في منظومة متشابكة من الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا.

ربما يكون المال في منتصف القرن الواحد والعشرين أكثر تنوعاً، وأقل مركزية، وأقرب إلى الانسان مما كان عليه من قبل. لكنه في جوهره سيبقى كما كان دائماً :مرآة للخوف والأمل.
بين الخوف من المستقبل والأمل في نظام أكثر حيادية وتوازناً ستستمر رحلة الاحتياطات النقدية، من الذهب إلى البيتكوين، بحثاً عن الثقة التي تغيرت أشكالها، لكنها لم تفقد قيمتها.