بعد زيادات واشنطن الجمركية الأخيرة.. الانتخابات الأميركية تؤجج نار الحرب التجارية مع الصين

  • 2024-05-31
  • 11:00

بعد زيادات واشنطن الجمركية الأخيرة.. الانتخابات الأميركية تؤجج نار الحرب التجارية مع الصين

  • كتب فيصل أبوزكي

جاءت الزيادات الأخيرة التي أعلنتها الإدارة الأميركية في التعرفات الجمركية على عدد من البضائع الصينية، لتؤكد أن التوترات التجارية بين أميركا والصين لا تزال قائمة، بل إنها مرشحة للتصاعد ولاسيما خلال الموسم الانتخابي الحالي في الولايات المتحدة الأميركية، مع ما يحمله هذا التطور والتوقعات من انعكاسات سلبية على وتيرة التنافس السياسي والاقتصادي والتكنولوجي بين اكبر قطبين اقتصاديين في العالم، وعلى مستقبل التجارة الحرة وفق قواعد منظمة التجارة العالمية، وبالتالي على عملية الاستقطاب التي ستعيشها الدول الاخرى ولاسيما البلدان النامية او ما اصبح يسمى حالياً بعالم الجنوب.

تضمّن القرار الأميركي الأخير زيادات جمركية على ما يقدر بـ 18 مليار دولار من المنتجات الصينية ومن ضمنها: السيارات الكهربائية، بطاريات الليثيوم-ايون للسيارات والتخزين، مكونات البطاريات، الخلايا الشمسية، مادة الغرافيت والمغناطيس، الرقائق الالكترونية (Semiconductors)، منتجات الحديد والالمنيوم، الرافعات المستخدمة لنقل البضائع من السفن إلى الأرصفة، بعض المنتجات الطبية المستخدمة للحماية الشخصية. وبشكل أساسي تضمن القرار الجديد زيادة التعرفة على السيارات الكهربائية أربعة اضعاف، وعلى منتجات الحديد والالمنيوم 3 اضعاف، ومرتين على اشباه الموصلات وكذلك على الخلايا الشمسية، وأكثر من ثلاثة اضعاف على البطاريات. وتأتي التعرفات الجديدة فوق ما فرضته إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب في العام 2018 والتي بلغت نسبتها 25 في المئة على ما قيمته 300 مليار دولار من المنتجات الصينية.

 

 

مبيع السيارات الكهربائية عالمياً ما بين 2018 و2023 (مليون سيارة سنوياً)

 

الدول الأخرى الولايات المتحدة أوروبا الصين  
0.2 0.4 0.4 1.1 2018
0.2 0.3 0.6 1.1 2019
0.2 0.3 1.4 1.1 2020
0.3 0.6 2.3 3.3 2021
0.6 1 2.7 6 2022
1 1.4 3.2 8.1 2023
المصدر: وكالة الطاقة الدولية

 


في تفسير القرار الأميركي الأخير وانعكاساته

 

يمكن تفسير القرار الأخير من منظور انتخابي إذ أصبحت التجارة مع الصين بمثابة سلاح انتخابي يتبارى المنافسون على الرئاسة باستخدامه. فالرئيس بايدن الذي انتقد قرار ترامب في العام 2018 معتبراً إياه عقوبة على المستهلك الأميركي استمر في سياسات ترامب المتشددة تجاه الصين، وأضاف عليها إجراءات أخرى مثل القيود على تصدير الرقائق الالكترونية وغيرها من التقنيات الحساسة الى الصين، في حين أن ترامب أكد عقب قرار بايدن الأخير أن هذه الزيادات غير كافية، وأنه سيفرض في حال انتخابه رئيساً، علاوات جمركية نسبتها 60 في المئة على المنتجات الصينية كافة. وفي ظل التنافس الحاد واستخدام وسائل الاستقطاب كافة للناخب الأميركي ولاسيما للمستقلين منهم في الولايات المتأرجحة والذين عادة ما يحسمون النتيجة، يتضح أن قرار بايدن الأخير يهدف الى تعزيز حظوظه في ولاية بنسلفانيا حيث تتمركز صناعات الحديد والالمنيوم وولاية ميتشغان التي تحتضن الحصة الأكبر من صناعة السيارات الأميركية، والتي تلعب فيها النقابات العمالية دوراً مؤثراً. ومن المعروف أن الرئيس بايدن يظهر دعماً غير مسبوق لهذه النقابات، إذ أعلن أخيراً معارضته لقيام شركة نيبون ستيل اليابانية بتملك شركة "يو اس ستيل" الأميركية على الرغم من كون اليابان من بين أكثر حلفاء الولايات المتحدة موثوقية.

 

تاريخ سريان مفعول الرسوم الجمركية المفروضة على المنتجات الصينية

 

السنة التعرفة الجديدة التعرفة القديمة المنتج
2024 25% 0%-7.5% منتجات الفولاذ والألومينيوم
2025 50% 25% أشباه الموصلات
2024 100% 25% السيارات الكهربائية
2024 25% 7.50% بطاريات ليثيوم ايون  (EV)
2026 25% 7.50% بطاريات التخزين ليثيوم- ايون
2024 25% 7.50% مكونات البطاريات
2026 25% 0% الجرافيت والمغناطيس الدائم
2024 25% 0% معادن حرجة أخرى
2024 50% 25% الخلايا الشمسية
2024 25% 0% الرافعات البحرية
2024 50% 0% الإبر والمحاقن
2024 25% 0%-7.5% أدوات الوقاية الشخصية
2026 25% 7.50% القفازات الطبية والجراحية
المصدر: البيت الأبيض

 

على أهمية الشأن الانتخابي وتصدره قائمة الاهتمامات في الولايات المتحدة، يعكس القرار الأخير تحولاً أساسياً في السياسة الأميركية تجاه الصين، وهو تحول بدأت تظهر بوادره العملية بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً في العام 2016، على الرغم من ارتفاع اللهجة والشكوى الأميركية من ان الصين تستخدم اساليب غير عادلة في اقتصادها وتجارتها مع العالم، حيث تغدق الدعم على صناعاتها التي تغرق بدورها الاسواق العالمية بمنتجاتها مستفيدة من قدرتها على الانتاج الوفير وبكلفة متدنية. ولم يكن هناك اي خلاف بين الحزب الديمقراطي والجمهوري على ضرورة إحداث تغيير اساسي في سياسة الولايات المتحدة الاقتصادية والتجارية تجاه الصين، واعطت ازمة كورونا ودرجة انكشاف السوق الاميركية على الامدادات الصينية من الادوات الوقائية والطبية المطلوبة لمكافحة الوباء زخماً جديداً لهذا التغيير.

تبدو الاجراءات الجديدة استباقية بجزء اساسي منها ولاسيما بما يخص صناعة السيارات الكهربائية والبطاريات وغيرها من المجالات المرتبطة بالتحول الى الطاقة النظيفة وخفض الانبعاثات. فواردات الولايات المتحدة من السيارات الكهربائية الصينية لم تتعد قيمتها 365 مليون دولار اي ما نسبته 2 في المئة من اجمالي الواردات الاميركية من هذه السيارات بالمقارنة مع واردات المانية وكورية ويابانية من السيارات الكهربائية الصينية بلغت نسبتها 22 و21 و 18 في المئة على التوالي، ويقدر ان الصين صدرت العام الماضي ما نسبته 16 في المئة من السيارات الكهربائية التي انتجتها.

 

تحول استراتيجي ولو على حساب الكلفة

 

ومن هنا يمكن القول إن القرار الأميركي نابع من قرار استراتيجي بتطوير صناعة سيارات أميركية محلية مؤثرة، وتوطين سلاسل إمدادها الرئيسية، وإعطاء الشركات الأميركية الوقت الكافي لتطوير قدراتها التنافسية وموقعها في السوق، وبالتالي حماية الوظائف الأميركية وأموال الدعم التي قدمتها الحكومة لهذا القطاع من خلال قانون خفض التضخم الذي تم اقراره في العام 2022، وتضمن حزمات دعم مباشر وإعفاءات ضريبية وضمانات قروض، يقدر أن تتراوح قيمتها النهائية ما بين 400 مليار و 1.2 تريليون دولار. فالرأي الأميركي السائد في أروقة القرار هو أن فتح الباب على مصراعيه أمام دخول صناعة السيارات الصينية إلى السوق الأميركية، سيؤدي إلى النتيجة نفسها التي حصلت في صناعات أخرى اضطرت إلى إقفال أبوابها أمام الطوفان الصيني، وهو أمر لن يُسمح بحدوثه مجدداً، كما لن يسمح للصين بجني ثمار موجة التحول نحو الطاقات النظيفة التي تعتبر الركيزة الأساسية في التزامات الدول وبرامجها للحياد المناخي. ولخص كلام الرئيس بايدن السياسة الأميركية الجديدة تجاه الصين عندما أكد أن الولايات المتحدة لن تسمح أبداً للصين بأن تسيطر بطريقة غير عادلة على سوق هذه السيارات سواء أكانت كهربائية أم هجينة أم عادية. ويبرز هذا مدى التغيير في نمط التفكير الأميركي الذي ظل لعقود طويلة من الزمن، يروج للتجارة الحرة والأسواق المفتوحة. وفي الوقت الذي يدعم فيه الكثير من الفاعلين في السياسة الأميركية السياسة الحالية تجاه الصين، هناك أصوات معترضة ترى أن السياسات الصناعية النشطة (Industrial Policy) وحزمات الدعم والحماية التي بدأت تستخدمهما الإدارة الأميركية الحالية من خلال إقرار قوانين مثل قانون مكافحة التضخم، وقانون الرقائق والعلوم (Chip and Science Act)، وقانون البنى التحتية والوظائف في العام 2021، ستؤدي إلى رفع التكلفة على المستهلك والمُصنع وعلى تراجع القدرات التنافسية للشركات الأميركية، كما إنها ستشجع الدول الأخرى على اعتماد سياسات حمائية مماثلة لدعم القطاعات التي تراها حيوية لاقتصاداتها ومجتمعاتها.

 

ويبدو أن إقبال المستهلك الأميركي على اقتناء السيارات الكهربائية، جاء دون توقعات الشركات المصنعة، والتي اضطرت إلى تكبّد خسائر من عدم قدرتها على بيع كل ما انتجته من هذه السيارات، وإلى كبح اندفاعها الانتاجي والعودة إلى الرهان على السيارات الهجينة كجسر مؤقت نحو السيارات الكهربائية. ويعيد البعض هذا التحول الى ارتفاع كلفة هذه السيارات لشريحة واسعة من المستهلكين، وعدم كفاية البنى التحتية خصوصاً محطات الشحن وربما عدم اقتناع عدد لا بأس به من المستهلكين بالتخلي عن السيارات العادية حتى الآن.

 

إجماع أميركي على المواجهة

 

 ليس من المتوقع أن تتراجع الإدارة الاميركية الحالية أو المقبلة، بغض النظر عن الفائز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، عن السياسات الجديدة القاضية بدعم وتوفير بعض الحماية للصناعات التي تعتبرها استراتيجية وفي صلب الأمن القومي. وكانت الولايات المتحدة استوردت من الصين ما قيمته 427 مليار دولار، في حين صدرت إليها ما قيمته 148 مليار خلال العام الماضي، وهو ما يؤكد أن الولايات المتحدة لا ترغب في وقف تجارتها مع الصين بل إلى الفصل بين ما تعتبره استراتيجياً لها، وما هو غير استراتيجي في هذه التجارة. وتأتي التكنولوجيا الجديدة والمتقدمة والقطاعات التي تريد الولايات المتحدة الحفاظ عليها وعلى سلاسل امدادها المحلية ومن ضمنها الأجيال الجديدة من الرقائق الالكترونية المتقدمة والتي تعتبر الركيزة الاساسية في الاقتصاد الرقمي والتطبيقات المرتبطة به، وكذلك في الصناعات العسكرية في طليعة القطاعات الاستراتيجية التي تريد الولايات المتحدة تحصينها من ما تعتبره الزحف الصيني، كذلك تسعى الولايات المتحدة الى حجب التقنيات المتقدمة قدر المستطاع عن الصين في محاولة لإبطاء تقدمها في هذه المجالات، ومن تحولها إلى منافس عالمي في التكنولوجيا الحديثة، التي تعتبر المنطلق الأساسي للسيطرة على اقتصاد المستقبل. وفي هذا السياق، جاء إقرار قانون الرقائق الالكترونية والعلوم التي يوفر دعماً بحدود 250 مليار دولار لهذه الصناعة وأبحاثها والتي استفادت منه حتى الآن أكبر الشركات الأميركية والتايوانية والكورية واليابانية المصنعة لهذه الشرائح. كذلك جاءت القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على تصدير هذه الرقائق وتقنياتها الى الصين أو تصدير الانظمة والمعدات التي تستخدم في صناعتها من الولايات المتحدة او الدول الحليفة لها والتي رافقتها عقوبات على عدد متزايد من الشركات الصينية الكبرى والمتخصصة في التكنولوجيا الحديثة مثل "هواوي" كاجراءات اضافية لتحصين تلك السياسة وضمان فعاليتها.

 

وفي ما قد يكون اختلاف في السياسات ووجهات النظر بين الادارة ومعارضيها من الجمهوريين حول دور الدولة في الاقتصاد وحول الاجندة المناخية، لا يبدو التغيير الحاصل في سياسة الإدارة الأميركية تجاه الصين ظرفياً لا بل يلتقي عليه قطاع عريض من المؤثرين في صنع السياسات في الإدارة ومجلسي الشيوخ والنواب وأصحاب المصالح. ويعكس قناعات جديدة تنطوي على ضرورة الخروج من سياق العولمة الذي شهد ذروته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، والتي تمحورت حول الليبرالية الاقتصادية والركون الى آليات السوق وفق ما يسمى بـ "اجماع واشنطن" وعولمة سلاسل الإمداد بهدف رفع كفاءة الانتاج وخفض الكلفة. التفكير الجديد يقضي بأن يصبح للدولة سياسات صناعية نشطة تتضمن دعماً للقطاعات التي تعتبرها استراتيجية او مهمة للأمن الوطني او للوظائف وتؤمن الحفاظ على التفوق الأميركي الاقتصادي والجيوسياسي، وهذا ما يتطلب توفير دعم حكومي لهذه القطاعات عبر الاعانات المباشرة والمتنوعة الشكل وعبر إجراءات حمائية محددة لتحصينها من المنافسة الصينية واعطائها الوقت الكافي لاعادة بناء قدراتها التنافسية. ولزيادة فعالية وتأثير سياساتها تجاه الصين، تسعى الولايات المتحدة الى استمالة اوروبا وحلفائها الآخرين لتبني اجراءات مماثلة والتضييق على الصين تجارياً وتكنولوجياً.

 

أكثر من الاقتصاد

 

وتأتي السياسات الجديدة في سياق جيوسياسي مفاده أن الولايات المتحدة الأميركية أصبحت تضع الصين على رأس قائمة المنافسين المحتملين على الزعامة العالمية، وذلك نتيجة التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الذي تمكنت من تحقيقه منذ خروجها من عزلتها وانضمامها الى منظمة التجارة العالمية، وتحولها الى أكبر لاعب في التجارة وبداية استخدامها للديبلوماسية الاقتصادية لتعزيز نفوذها حول العالم. وما يجعل التحدي الصيني أكثر حراجة للولايات المتحدة، هو نجاح الصين في تحقيق تقدم مستمر في العلوم والتكنولوجيا وانفاقها السخي على الابحاث والتطوير لا بل سيطرتها على بعض القطاعات مثل تقنيات الطاقات النظيفة ومنها السيارات الكهربائية والبطاريات والالواح الشمسية والمواد الأولية المرتبطة بها. وتسعى الصين الى الانتقال من مرحلة تصنيع المنتجات المتدنية الكلفة الى مرحلة الصناعات المتقدمة تكنولوجيا. وهذا ما ظهر جلياً في برنامج "صنع في الصين 2025" الذي أطلقته الحكومة في العام 2015 والذي يعطي الأولوية لتطوير قطاعات التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والشرائح الالكترونية المتقدمة والحوسبة السحابية والصناعات الدوائية والبيولوجية وصناعات الطيران والفضاء وصناعات الطاقة النظيفة وغيرها. وتسعى الصين من خلال هذا البرنامج الى تطوير هذه الصناعات وسلاسل إمدادها المحلية وتخفيض اعتمادها على الخارج في هذ المجالات.

 

وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن نجاح الصين في تطوير هذه الصناعات وتصديرها، يمثّل مصدر تحدٍ كبير خصوصاً إذا نجحت الصين في تعزيز قوتها في الأسواق العالمية ونفوذها الجيوسياسي، وتحديداً في مجالات تعتبرها الولايات المتحدة الأميركية استراتيجية وتضفي عليها صبغة الأمن القومي. الى ذلك، فإن معظم هذه الصناعات لها استخدام عسكري ويمكن أن تكون رافداً مهماً للصناعات العسكرية الصينية ولتعزيز قوة الصين العسكرية والإخلال بتوازن القوى الحالي بينها وبين الولايات المتحدة. ونتيجة هذه القناعات، أصبح هناك عدد متزايد من الخبراء والمحللين الجيوسياسيين الذين يعتقدون بوجود حرب باردة جديدة قطبيها الرئيسين الولايات والمتحدة الأميركية والصين، وبأن التوتر بين البلدين هو الى تصاعد على الرغم من جهود التبريد التي يحاول الطرفان ممارستها، وقد يؤدي في المستقبل الى حوادث محددة او ربما حرب تكون شرارتها تايوان.

في مقابل الإجراءات الأميركية الأخيرة من المتوقع أن ترد الصين، كما سبق وفعلت في حالات سابقة، وهي "تعارض الإجراءات الأحادية لزيادة الرسوم الجمركية، التي تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية. وهي ستتخذ كل الإجراءات الضرورية لحماية حقوقها ومصالحها المشروعة" وفق وزارة الخارجية الصينية. وتتضمن خيارات الصين في فرض رسوم على منتجات أميركية معينة او تقديم شكاوى امام منظمة التجارة العالمية. ووفق توقعات غولدمن ساكس ستنتج الصين 27 مليون سيارة ركاب خلال العام الحالي على الرغم من امتلاك المصنعين الصينيين لطاقة انتاجية تقارب 48.8 مليون سيارة. ويعتبر أحد المصنعين الصينيين أن الشركات الصينية عادة ما تبني مصانع مع طاقة انتاجية فائضة وفق نظرة طويلة الأجل. وتصدر الصين حالياً 12 في المئة مما تنتجه من السيارات الكهربائية، وهذا ما دفع المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية للقول: "إذا كان تصدير 12 في المئة من انتاج السيارات الكهربائية الصينية يعد فائضاً انتاجياً كبيراً فماذا اذاً عن المانيا واليابان وأميركا التي تصدر ما نسبته 80 و50 و 25 في المئة من انتاجها من السيارات على التوالي؟" ويشير المتحدث نفسه إلى أن اتهام الصين بإمكانية استخدام طاقتها الإنتاجية الإضافية لإغراق الأسواق العالمية بالسيارات الكهربائية يتجاهل تاريخ عمره أكثر من 200 عام تمتع فيه الغرب بمزايا اقتصادية لم يشاركه فيها احد.

تجسّد خطة "صنع في الصين 2025" الطموحات الصينية بالانتقال الى الريادة الصناعية عبر الاعتماد على الابتكار وتطوير التقنيات الحديثة والاستفادة من الخزان البشري الكبير والخبرات الفنية الوفيرة التي تملكها. وتعتقد الصين أن الضغوط الأميركية عليها ستتزايد وكذلك القيود التجارية والعقوبات على الاشخاص والمؤسسات الحكومية والشركات، وهذا ما يعزز اندفاعها على تطوير صناعاتها وسلاسل إمدادها الداخلية ورفع درجة الاكتفاء المحلي إلى أقصى الحدود الممكنة وسيطرتها على التقنيات الضرورية لهذا التحول، وهي تعتبر أن هذه الطموحات مشروعة، وأن ما تقوم به الولايات المتحدة هو محاولة للحدّ من طموحات وحق الصين المشروع في تطوير اقتصادها والانضمام الى نادي الدول المتقدمة مع احتفاظها بمنظومتها السياسية والحكومية والثقافية، ويتوقع أن تستمر الصين بالتركيز على توجيه المدخرات الصينية الى الاستثمار في القطاعات التي تريد تطويرها كما فعلت في السابق في تطوير قطاع الصناعة والبنى التحتية والقطاع العقاري مع إبقاء مستوى الاستهلاك المحلي تحت السيطرة. فالأولوية الصينية ستبقى على الاستثمار على حساب الاستهلاك في المعادلة الاقتصادية وهو ما يناقض الطريقة الأميركية التي تعطي الاستهلاك أهمية كبرى كطريقة لتوليد النمو ورفع مستوى المعيشة. فالاستهلاك يشكل حالياً أكثر من 70 في المئة من الاقتصاد الأميركي في حين لا تتعدى هذه الحصة 40 في المئة من الاقتصاد الصيني. ويعتقد الخبراء الغربيون أنه على الصين تعزيز الاستهلاك المحلي ورفع مستوى المعيشة عبر تحويل المزيد من الموارد للمستهلكين على حساب الصناعة وبناء طاقات تصديرية جديدة وضخها في الأسواق العالمية والضغط على الكثير من الصناعات في الدول الغريبة والنامية ودفعها الى الاقفال، وهو ما لن تتقبله بعد الآن الكثير من هذه الدول. وبين هاتين المقاربتين الاقتصاديتين المختلفتين، يتم بناء سياسات واتخاذ اجراءات متناقضة وإعادة تشكيل التجارة العالمية وفق معايير جيوسياسية أكثر منها اقتصادية او جغرافية.  ويتوقف الكثير من التطورات المستقبلية في هذا القبيل على قرار الصين في كيفية الإبحار وسط الأمواج الغربية المتصاعدة المتوقع ان تزداد عصفاً بالتجارة الصينية في الوقت الذي يشهد الاقتصاد الصيني تباطوءاً في النمو وازمة عقارية وتشبعاً في البنى التحتية نتيجة الاستثمارات السابقة. هل تقرر الصين استيعاب الضغوط عبر التخفيف من اندفعها التصديري، وتعزز من اجراءاتها التحفيزية لزيادة الاستهلاك والطلب المحلي ام تمضي قدماً في التوسع الصناعي والتركيز على الصناعات المتقدمة ذات المحتوى التكنولوجي العالي، وتعزيز مستوى الاكتفاء المحلي على حساب رفع التوتر مع الولايات المتحدة، وربما مع الاتحاد الاوروبي وحلفاء أميركا الآخرين لاحقاً؟


أوروبا الحائرة وإمساك العصا من الوسط

 

تتأرجح الصين بين الموقع الأول والثاني كشريك تجاري لدول الاتحاد الأوروبي، ووصلت قيمة تجارة البضائع بين الصين والاتحاد الاوروبي الى أكثر من 696 مليار يورو في العام 2021. وهناك استثمارات أوروبية كبيرة في الصين وخصوصاً في صناعة السيارات ومن المانيا بالتحديد. وتستورد المانيا مثلاً قرابة 22 في المئة من استهلاكها من السيارات الكهربائية من الصين. وانطلاقاً من الحجم المؤثر للتجارة الصينية الاوروبية ولتشابك المصالح الاقتصادية، لم تأت ردود الفعل الاوروبية على الاجراءات الأميركية الأخيرة وفق ما تشتهيه الولايات المتحدة حسب ما صرّح به المستشار الالماني ورئيس الوزراء السويدي، وربما أن تصريح مفوضة الاتحاد الاوروبي اورسولا فون ديرليين، يعبّر بشكل واضح عن الموقف الأوروبي الوسطي بما يخص التجارة والعلاقة الاقتصادية مع الصين. فقد اكدت فون دي ليين ان الاتحاد الاوروبي لن ينضم الى الولايات المتحدة في فرض رسوم  على البضائع الصينية بل ان الاتحاد الاوروبي سيعتمد مقاربة مختلفة وهي اكدت:" اننا نريد المنافسة، ونريد المتاجرة مع الصين لكننا نريد ان تكون هذه التجارة عادلة ووفق القواعد".

تحاول الولايات المتحدة الضغط على دول الاتحاد الأوروبي وحلفائها الآخرين للانضمام الى حملتها الهادفة الى تقييد التجارة مع الصين ولا سيما فيما يخص صادرات تكنولوجيا الطاقة النظيفة مثل السيارات الكهربائية والألواح الشمسية والتوربينات الهوائية والبطاريات على اعتبار أن هذه الصادرات التي تعتبرها رخيصة نتيجة الدعم الحومي يمكن أن تغرق الاسواق العالمية وتهدد بقاء المصانع المماثلة حول العالم. ولذا يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين التحرك بطريقة موحدة لتصاعد قوة الصين الصناعية وفق ما تضمنته كلمة لوزيرة الخزانة الأميركية في المانيا أخيراً.

تحاول اوروبا التقاط العصا من الوسط والحفاظ على مصالحها مع الصين وفي الوقت نفسه، عدم اغضاب الولايات المتحدة. ولذا اعلنت خلال التسعة أشهر الماضية عن البدء بتحقيقات عن صناعة السيارات الكهربائية والألواح الشمسية والتوربينات الهوائية الصينية، لتحديد مدى تأثيرها او اضرارها على الصناعات المماثلة في اوروبا وعلى ما إذا كان الدعم الذي تقدمه الحكومة الصينية لهذه الصناعات مضراً بقواعد التجارة العادلة. وبالطبع كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أكثر صراحة حين قال إننا لسنا على مسافة واحدة بين الولايات المتحد والصين، بل نحن حلفاء لأميركا. ويبقى على أوروبا السير على درب صعبة واللعب على توازنات دقيقة للحفاظ على مصالحها في ظل استعار المنافسة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.