العالم من سباق التسلح إلى سباق التسليف

  • 2023-11-13
  • 11:21

العالم من سباق التسلح إلى سباق التسليف

  • أحمد عياش

 

في موازاة الحروب المعاصرة، ومنها الحرب في غزة وقبلها الحرب في أوكرانيا، تدور حالياً حرب من نوع آخر. وإذا كان من سمات الحروب العسكرية التسابق على التسلح، فإن من سمات الحرب الجديدة، وهي اقتصادية بامتياز، نشوب سباق للتسليف التي تدور رحاها اليوم بين الولايات المتحدة الأميركية وبين الصين.

 

 

إقرأ للكاتب نفسه

ليس بالحرب وحدها يصعد النفط

     

     

    عندما نتحدث عن سباق التسلح، يقودنا الأمر الى القرن التاسع عشر، حيث نمت القوة الاقتصادية والصناعة في ألمانيا بشكل كبير بعد حركة توحيد ألمانيا في العام 1871. ومنذ منتصف عقد 1890 استعملت حكومة فيلهلم الثاني هذا الأساس لتكريس موارد اقتصادية كبيرة لبناء البحرية الإمبراطورية الألمانية، في منافسة مع البحرية الملكية البريطانية للتفوق في البحرية من بين دول العالم. وفي نهاية المطاف توسع سباق التسلح بين بريطانيا وألمانيا إلى جميع أنحاء أوروبا. فمع وجود كل القوى الكبرى، تم تكريس قاعدة صناعية لإنتاج المعدات والأسلحة اللازمة لصراع عموم أوروبا. وما بين العامين 1908 و 1913 زاد الإنفاق العسكري من القوى الأوروبية بنسبة 50 في المئة. وكان هذا السياق الإشارة الرئيسية الى اقتراب الحرب العالمية الأولى العام 1914.

    اما اليوم، هناك سباق اقتصادي وبدايته تسليف القروض. وتحت عنوان "الصين تقرض المليارات للدول التي تعاني من مشاكل مالية"، كتبت النيويورك تايمز تقول إن الصين وبدلاً من إقراض الأموال للطرق السريعة والجسور، تحولت إلى توفير عمليات الإنقاذ الطارئة للمقترضين السابقين. ولفتت النظر الى انه بعد إقراض 1.3 تريليون دولار للبلدان النامية، خصوصاً لمشاريع البنية التحتية الكبيرة، حوّلت الصين تركيزها إلى إنقاذ العديد من تلك البلدان نفسها من أكوام الديون.

     

     "كابوس" تجديد السندات

     

    وكانت القروض الأولية في معظمها جزءاً من مبادرة الحزام والطريق، التي بدأها شي جين بينغ، الزعيم الأعلى للصين، في العام 2013 لبناء روابط أقوى في مجالات النقل والاتصالات والعلاقات السياسية في أكثر من 150 دولة.

    وفي مقابل هذه السياسة المالية الجدية للصين، بدت الأمور على الضفة الأخرى، أي الولايات المتحدة الأميركية حتى أمد قريب على طرف نقيض. فتحت عنوان "أسعار الفائدة الأميركية تزيد من أزمة الديون الصامتة" في البلدان النامية" كتبت الفاينناشال تايمز تقريراً استهلته بالتحذير الذي أطلقه البنك الدولي حديثاً. ونبّه البنك الى أن بعض الدول ذات الديون المرتفعة والمنخفضة الدخل تواجه "كابوساً" في تجديد سنداتها. وما قاله البنك الدولي أيضاً: "إن الكثير من الأسواق الناشئة الأصغر تواجه أزمة ديون صامتة في الوقت الذي تكافح فيه تأثير ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية على مواردها المالية الهشة بالفعل. وبعد عمليات بيع حادة العام الماضي بسبب ارتفاع سريع في أسعار الفائدة العالمية وقوة الدولار، واجهت ديون الأسواق الناشئة بالعملات الأجنبية صعوبات في التعافي حيث يراهن المستثمرون على أن تكاليف الاقتراض يجب أن تظل أعلى لفترة أطول. وقد أدى ذلك إلى جعل نسبة البلدان الناشئة والنامية التي تزيد تكاليف اقتراضها بأكثر من 10 نقاط مئوية عن تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة عند 23 في المئة. ويقارن ذلك بأقل من 5 في المئة في العام 2019، وفقاً لحسابات البنك الدولي، في مؤشر على الضغط الذي تتعرض له تلك الاقتصادات الآن. ونتيجة لذلك، كانت مدفوعات فوائد الديون كحصة من الإيرادات الحكومية عند أعلى مستوى لها منذ العام 2010 على الأقل، وفقاً للبنك، وكانت دورة تشديد السياسة النقدية كابوساً للبلدان ذات الدخل المنخفض ذات المستويات المرتفعة من الديون، كما قال أيهان كوس، نائب كبير الاقتصاديين في مجموعة البنك الدولي. وأضاف الأخير في مقابلة: "بالنظر إلى التحديات المحددة جيداً التي تواجهها هذه الاقتصادات في ما يتعلق بترحيل التزامات الديون، نحن نقول إن هناك أزمة ديون صامتة تحدث". 

     

     تحول في السياسة المالية الأميركية

     

    بناءً على ما سبق، من المتوقع أن يكون الألم الناجم عن ارتفاع تكاليف الاقتراض حاداً بشكل خاص بالنسبة للبلدان منخفضة الدخل، نظراً إلى أن العديد منها تراكم عليه ديون كبيرة خلال جائحة كوفيد-19.

    لكن على ما يبدو قد طرأ تحوّل في السياسة المالية الأميركية يجب التوقف عنده. وبالطبع يجب النظر الى التحوّل من زاوية سياسية بأدوات مالية. والقصة تبدأ من سريلانكا. وبالعودة الى مبادرة الحزام والطريق، التي أطلقتها الصين العام 2013، وكانت سريلانكا موقعاً لواحد من أكثر مشاريع البنية التحتية الصينية المشحونة سياسياً: بناء ميناء بقيمة 1.1 مليار دولار في هامبانتوتا، وهي بلدة تقع على بعد نحو 130 ميلاً جنوب شرق كولومبو كانت القاعدة السياسية لماهيندا راجاباكسا، الذي كان آنذاك رئيساً لسريلانكا، اجتذب الميناء القليل من حركة المرور. عندما لم يتمكن المشروع من سداد ديونه، حصلت الكيانات الصينية على عقد إيجار لمدة 99 عاماً للميناء و15000 فدان من الأراضي المحيطة به.

     

    يمكنك متابعة:

    صفقتان في الولايات المتحدة الأميركية تعلنان أن زمن النفط طويل

       

      لكن فجأة، أعلنت قبل أيام مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية أنها ستقرض 553 مليون دولار لإنشاء محطة حاويات شحن في المياه العميقة في ميناء كولومبو في سريلانكا، ما يوسع جهود أميركا لتمويل البنية التحتية حول الأجزاء الاستراتيجية من آسيا.

      وترتبط حزمة القروض بموانئ أداني، وهي جزء من تكتل مرتبط ارتباطاً وثيقاً برئيس الوزراء الهندي ناريندرا، وستساعد "أداني" في تطوير المحطة مع شركاء سريلانكيين.

      ولم تفت النيويورك تايمز الإشارة الى وجه الشبه بين الأموال المقدمة من مؤسسة التنمية الأميركية وبين ذلك النوع من الصفقات الضخمة التي أبرمتها بنوك التنمية الصينية في مختلف أنحاء العالم على مدى العقد الماضي. والآن تعتزم الولايات المتحدة، وإلى حد ما الهند، اللحاق بالركب الصيني.

      والجدير بالذكر انه تم إنشاء مؤسسة تمويل التنمية خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتمويل مشاريع البنية التحتية الدولية، والتعاون مع وزارة الخارجية لدعم السياسة الخارجية الأميركية والحد من النفوذ الصيني. وقال سكوت ناثان، الرئيس التنفيذي للوكالة الأميركية: "الحقائق في هذه المنطقة والتجارة العالمية تجعل هذه إضافة حاسمة لبنيتنا التحتية العالمية".

      وكان ناثان يتحدث في مؤتمر صحفي في كولومبو، عاصمة سريلانكا. وانضم إليه كاران أداني، الرئيس التنفيذي لشركة موانئ أداني ونجل مؤسس المجموعة، غوتام أداني، الذي ذهب إلى أبعد من ذلك في تعليقاته، حيث بدا أنه يتذرع باعتبارات دفاعية بقوله إن نصف مليار دولار إضافية ترمز إلى "الأمن الإقليمي".

      وبينما كان المشاركون في المؤتمر الصحفي يتناوبون على وصف كيف يظهر القرض التزام أميركا والهند تجاه هذه الدولة الجزرية المثقلة بالديون وبقية منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لم يذكر أي منهما الصين بالاسم، لكنهما لم يكونا بحاجة إلى ذلك.

      وفي أي حال، انه مشروع ميناء دولي له أهمية خاصة لسريلانكا التي تقع عند نقطة تحول بين مضيق ملقا وقناة السويس. وتشهد مرور نحو نصف السفن التجارية في العالم. ويعمل ميناء كولومبو، وهو الأكثر ازدحاماً على المحيط الهندي، بنسبة 90 في المئة من طاقته منذ سنوات.

       وكما ورد سابقاً، ففي عهد راجاباكساس، الأسرة الحاكمة التي قادت سريلانكا حتى انهيار اقتصاد البلاد في العام 2022، قامت البنوك والشركات الهندسية الصينية ببناء ميناء ضخم في المياه العميقة على الشاطئ الجنوبي البعيد نسبياً للجزيرة. وكان هامبانتوتا، اسم هذا المشروع، الأبيض في الغرفة خلال إعلانات التنصيب يوم الأربعاء. وبنيت هامبانتوتا بتكلفة تزيد على مليار دولار وبموجب شروط لا يمكن لسريلانكا سدادها أبدا، وتقع في معقل السلطة السياسية في راجاباكسا، تمت مصادرتها في النهاية للصين بموجب عقد إيجار مدته 99 عاماً، إلى جانب 15000 فدان من الأراضي المجاورة. في حلول العام 2020، قبل أن يعطل الوباء التجارة، كان الميناء يتعامل مع 1.2 مليون طن فقط من البضائع سنوياً. يتعامل ميناء كولومبو مع أكثر من 30 مليون طن من البضائع سنوياً، ويخطط لمضاعفة هذه الكمية أربع مرات مع محطات جديدة.

       

      دبلوماسية فخ الديون

       

      أصبح أمبانتوتا سمة مميزة لما أسماه الرئيس بايدن "دبلوماسية فخ الديون" الصينية في أول قمة لقادة شراكة الأميركتيّن من أجل الازدهار الاقتصادي في واشنطن الأسبوع الماضي. وقال ناثان في المؤتمر الصحفي إن استثمارات إدارة بايدن في البنية التحتية "شفافة ولا تثقل كاهل البلدان بالديون على المستوى السيادي".

      وتضع الهند أيضاً نصب عينيها الصين في الوقت الذي تكافح فيه من أجل كسب النفوذ أو الاحتفاظ به في بقية أنحاء جنوب آسيا. ولطالما حاول الدبلوماسيون الهنود والصينيون ترسيخ مكانة بلادهم كشريك لا غنى عنه لسريلانكا وبنجلاديش ونيبال.

      وسيعني القرض الأميركي الاقتراب من الطريقة التي تمول بها الهند المشاريع طويلة الأجل. في عهد السيد مودي، كان هذا يعني القيام بقدر كبير من الأعمال التجارية مع أكبر التكتلات في البلاد. ومن بين أبرزها مجموعة أداني، التي شهدت ارتفاع سعر سهمها بنسبة 2500 في المئة في خمس سنوات حتى تضررت من تقرير أصدرته شركة هيندنبورغ للأبحاث ومقرها نيويورك في كانون الثاني يناير الماضي، واتهمت التكتل بالتلاعب في الأسهم والاحتيال المحاسبي. لكن الموارد المالية للتكتل استقرت لاحقاً، واستعادت بعض الشركات المكونة لها، بما في ذلك موانئ أداني، قيمتها السوقية.

      هل يكفي التركيز على ما حدث في سريلانكا، للقول ان ما حذر منه البنك الدولي من أزمات ناجمة عن ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية سيتلاشى؟

       

      توقعات بارتفاع أعباء الدين في البلدان الصاعدة والمتوسطة الدخل

       

       

      بالطبع، ليست الأمور على هذا القدر من التبسيط. وبالإضافة الى ما حذر منه البنك الدولي، يتوقع صندوق النقد الدولي، ان يتجه متوسط إجمالي عبء الدين الحكومي في الأسواق الصاعدة والبلدان المتوسطة الدخل إلى أكثر من 78 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في حلول العام 2028، مقارنة بما يزيد قليلاً على 53 في المئة قبل عقد من الزمن.  وفي حين أن العديد من أكبر الاقتصادات الناشئة تحملت تكاليف الاقتراض المرتفعة بشكل جيد نسبياً، فإن الاقتصادات الأصغر حجماً ذات الموارد المالية الأكثر هشاشة كانت تكافح. كما أدى ارتفاع العائدات إلى منع العديد من البلدان منخفضة الدخل من التمويل الدولي، ما دفع دول مثل غانا وسريلانكا إلى التخلف عن السداد وترك العديد من البلدان الأخرى على حافة الهاوية.  مجموعة فرعية من الدول الناشئة والنامية الأضعف "تم تسعيرها للتو من سوق السندات الدولارية"، كما قال براد سيتسر، وهو زميل بارز في مجلس العلاقات الخارجية. إنها بيئة لا تستطيع فيها الاقتراض بالدولار".

      ويقول محللون إنه إذا ظلت أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة، فمن المرجح أن تؤثر تكاليف الاقتراض على النمو الاقتصادي، مما يجعل من الصعب على الاقتصادات الخروج من ضغوط الديون. وهذا أمر مقلق بشكل خاص لدول مثل مصر وكينيا، التي تستحق كل منها سندات العام المقبل وتواجه احتمالاً صعباً بمحاولة إعادة التمويل بعوائد أعلى.

      انها مرحلة جديدة من الازمات. وفي زمن الازمات تنشط السباقات على أنواعها، على غرار سباق التسليف التي اندلعت حديثاً بين واشنطن وبكين. لكن ما يرجوه العالم، الا يحصل في سباق التسليف، كما حصل مع سباق التسلح الألماني البريطاني في نهاية القرن التاسع عشر، وما انتهى اليه العام 1914.