لبنان يهتز في فراغاته: "الأسوأ" يقترب على متن الفوضى النقدية والقضائية!

  • 2023-02-23
  • 17:00

لبنان يهتز في فراغاته: "الأسوأ" يقترب على متن الفوضى النقدية والقضائية!

  • علي زين الدين

في حين تستمر الأنظار مشدودة الى تحركات مصرف لبنان ومجلسه المركزي الذي ينعقد دورياً منتصف كل أسبوع، أو استثنائياً عند الاقتضاء، فالثابت أن منسوب الارباكات السوقية، يرتفع بحدة على خلفية انكفاء السلطة النقدية "القسري" عن اتخاذ أي تدابير جديدة في الأسواق النقدية، والاكتفاء بالتذكير يومياً بمواصلة المبادلات عبر منصة صيرفة بسعر يقارب 44 ألف ليرة لكل دولار.

 

للاطلاع: 

 السعودية والامارات: التبادل التجاري غير النفطي ينمو 9% 

 

 

وعشية جولة ميدانية سيقوم بها وفد خبراء صندوق النقد الدولي في بيروت خلال شهر آذار/مارس المقبل، يمكن النصح مسبقاً بخلاصة "فالج لا تعالج"، كعنوان ساطع للتقرير المزمع إعداده، قبيل الاحتفاء بالذكرى السنوية الأولى لعقد الاتفاق الأولي على مستوى فريقي التفاوض، والذي تم إبرامه في النصف الأول من نيسان/أبريل الماضي، معززاً بتعهدات رئاسية تنفيذية وتشريعية بالتزام مندرجاته وشروطه، توطئة لعقد اتفاقية – البرنامج، والقائمة على تيسير تمويلات بقيمة 3 مليارات دولار تواكب روزنامة اصلاحات هيكلية شاملة.

وما من مقاربة لدى اهل القطاع المالي في لبنان تفي بالتوصيف الدقيق للمستجدات العاصفة في الميدان النقدي، وما يرافقها من "هجمات" متوالية من قبل جهات قضائية محدّدة، بينما يدرك المسؤولون في السلطات التشريعية والتنفيذية تمام الادراك، بأن التوغل في سياسات النأي عن اولويات التدهور المريع للعملة، والذي يتغذّى في أساسه وفي تكاثره الاستثنائي، من "ضياع" مرجعي لدى وزارة المال وحاكمية البنك المركزي.

ويندرج في سياق ضياع البوصلة القضائية، التمادي بتأخير إصدار قانون مرجعي للضوابط الاستثنائية على السحوبات والتحويلات (كابيتال كونترول)، ربطاً بتعذر انعقاد الهيئة العامة لمجلس النواب، وإرجاء الجلسات الموعودة وسط غموض كثيف في إمكانية الوصول إلى توافق يؤمن اكثرية نيابية وميثاقية لإصدار تشريعات "الضرورات".

وعلى منوال التقليد اللبناني بالتوافق على "ربط النزاع" عند تعذر حل المشكلات بين طرفين أو أكثر، يتواصل العمل على انضاج تسوية تكفل احتواء الكباش المصرفي مع بعض الجهات القضائية، وبما يمهّد لتهدئة متوازنة تبرّر عودة المصارف الى العمل بالصيغة السابقة للاضراب العام المعلن.

ووفق متابعات لمسؤول مصرفي، فإن عملية نسج التفاهمات التي سيؤول نجاحها المرتقب الى فك الاضراب، تجري برعاية مباشرة من قبل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، والذي فوّض الجانب القضائي من المهمة الى رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود ومدعي عام التمييز غسّان عويدات، فيما يتولى هو شخصياً وبمعاونة عدد من مستشاريه التنسيق مع كبار المصرفيين ومكاتبهم القانونية.

ولعل ما يظهر من وقائع تسريع وتيرة الانهيارات، صار أشبه باهتزازات أقوى تسبق الارتطام الكبير. فالصعود القياسي للدولار متعدّياً عتبة 80 الف ليرة، ليس سوى العنوان الساطع الذي يحجب خلفه الخطر الأجسم والمتدحرج صوب جرّ الجهاز المصرفي الى أتون الشبهات بتبييض الأموال، والذي بدأ يشهد حراكاً يثير التوجس من اضطرار البنوك الخارجية المراسلة الى اعتماد خيارات وقائية مؤقتة او دائمة، يخشى ان تفضي الى وقف عمليات فتح الاعتمادات والتحويلات الخاصة بالبنوك اللبنانية.

وقد وضعت كثافة الملاحقات القطاع المالي بكامل مؤسساته في مواجهة هواجس متزايدة لدى ادارات البنوك المراسلة وأسئلة يومية تتقصى مآلات الصراع المكشوف بين جهات قضائية وعدد من المصارف، فضلاً عن الاحكام التي تصدر عن قضاة آخرين وتقضي بإلزام مصارف برد ودائع "نقداً" لزبائن يرفعون دعاوى لديهم، بخلاف القواعد المعتمدة للسحوبات الشهرية المنظمة طبقاً لتعاميم صادرة عن السلطة النقدية.

وزادت حراجة الهجوم "المنظم"، مع ظهور إشارات أولى للمس بكيانات مصرفية عائدة لبنوك خارجية مرموقة، مما ينذر بدخول مرحلة "الطرد القسري" للاستثمارات الخارجية التي صمدت، حتى الساعة، في البلد رغم كارثية أزماته على الصعد كافة، علماً أن أي إساءة من هذا النوع، تتطلب فوراً تحركات على أعلى المستويات في الدولة، بحسب تقدير لمسؤول مصرفي كبير، كونها تضرب في الصميم الرمق الأخير للأمن المالي والنقدي، ويمكن أن تنتج تداعيات مؤلمة على علاقات لبنان مع الخارج القريب والبعيد.

ومن دون تبصر في المضمون المسيء إلى المؤسسات، يتم الإفصاح بأن الادعاء يقوم على "جرائم اساءة الامانة والاحتيال والافلاس التقصيري والعمدي وضروب الغش إضراراً بالدائنين وتبييض الأموال والنيل من مكانة الدولة المالية ومتانة النقد الوطني"، ومشفوعاً بطلبات "إجراء التحريات والتعقبات القضائية بحق رؤساء ومديري بنوك وتوقيفهم ومنع سفرهم ووضع اشارة منع تصرف على ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة وإحالتهم أمام القضاء المختص لترتيب ما يلزَم قانوناً".

واذ تيقنت جمعية المصارف من عدم معالجة الأسباب التي حملتها إلى إعلان إضرابها المفتوح وأهمّها الملاحقات القضائية الخارجة كلياً عن الضوابط القانونية الإلزامية، فهي تدرج ضمن القرارات الاعتباطية، الاختلال الفاضح بين أحكام القروض التي تمنحها المصارف إلى زبائنها، مع تجاهل ان ودائع المودعين لديها هي مصدر التمويل بشكلٍ أساسي.

ويجب بالتالي تطبيق وحدة المعايير بين دين المصارف تجاه المودعين ودين المودعين تجاه المصارف، في حين أن العديد من الأحكام القضائية تلزم المصارف بقبض قروضها الممنوحة أساساً بالعملة الأجنبية بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف غير واقعي، في حين من جهة ثانية تصدر أحكاماً تلزم المصارف بدفع ودائع المودعين نقداً وبالعملة الأجنبية، كما وترفض اعتبار الشيكات المصرفية ذات المؤونة المضمونة والمسحوبة من المصارف على حسابها الدائن لدى مصرف لبنان، وسيلةً للدفع.

ومن الممارسات القضائية الاعتباطية أيضاً، قبول دعاوى مقدمة ضد المصارف من غير المودعين لديها وتقديمها إلى قضاة معيّنين غير مختصين لا نوعياً ولا مكانياً يختارون بسبب آرائهم العقائدية المعادية للمصارف، إضافةً إلى رفض بعض القضاة تبلّغ طلبات ردّهم ودعاوى مداعاة الدولة عن أعمالهم التي توجب رفع يدهم عن الملفات.

 

قد يهمك: 

"جلف كابيتال" و"آسيا هاوس": 578 مليار دولار التجارة الثنائية بين الخليج وأسواق آسيا الناشئة

 

 

في الأثناء، يقطع الانهيار المتدحرج لسعر صرف الليرة اللبنانية اكثر من 80 في المئة من المسافة الفاصلة لبلوغ محطة الستة ارقام ( 100 الف ليرة ) ازاء الدولار الاميركي، مسجلاً في شهرين فقط ضعفي ارقامه في بداية العام، لترتفع معه نسبة التقلص في قيمة الليرة الى أكثر من 98 في المئة من بداية تدرحرج الأزمة في خريف العام 2019.

هو الجنون بعينه، وفق مسؤول مصرفي يقرأ في المشهد النقدي المتفجر. فما يحصل لا تقتصر تداعياته على سعر العملة الوطنية فحسب، بل يشي بشرذمة الاصول والمواصفات الموضوعية لقاعدة العرض والطلب، ليضع كل وسائل وآليات المشهد النقدي بيد حيتان الاسواق الموازية ومجموعاتهم الناشطة والمتواصلة لحظة بلحظة عبر مجموعات "الواتساب" المغلقة.

ووفق تقييم المصرفي، تنطوي هذه الانحرافات في ادارة العمليات النقدية وارتقاء دور تجار العملات الى بسط نفوذهم على المبادلات والسيطرة على هامش متسع من الدور "المحوري" للبنك المركزي في التحكم بالسيولة وتحديد وجهات توظيفاتها، على مخاطر جسيمة تتعدّى سلبيات تضييق مجرى تنفيذ العمليات عبر الجهاز المصرفي المحكوم برقابة السلطة النقدية، لتبلغ مستوى توليد أضرار أشد ايلاماً على المعاملات المالية بين لبنان والخارج وبين البنوك وشبكة البنوك المراسلة في الخارج.

ويستمد التدهور الحاد قوة اندفاع استثنائية ترتكز اساساً على تعميق حال عدم اليقين السياسي والداخلي عموماً، ثم من احتدام الكباش بين القطاع المصرفي وجزء من السلطة القضائية على خلفية طلبات متلاحقة لكشف السرية، وبمفعول رجعي، عن حسابات تخص حملة اسهم ملكية ومستثمرين ومديرين كبار في بنوك محددة.

ويمكن الاستدلال عبر المداولات غير المعلنة والاتصالات المباشرة مع مسؤولين ومدراء في البنوك، على اتساع التباين المشهود في الترقبات المتداولة في اوساطهم بشأن وجهة التطورات في الايام المقبلة، ولا سيما لجهة ادارة الملف مع جهات قضائية محددة، بعدما لمسوا عدم فعالية، وربما عدم جديّة، وفق بعض التوصيفات، الوعود الشفهية بالمعالجة.

 وسواء استمرت المصارف في تنفيذ اضرابها العام المعلن او أنهته في ضوء الوساطات الجارية، فإن العمل سيبقى في الحالي مقتصراً على ضخ السيولة النقدية للأفراد عبر اجهزة الصرف الآلية، وتنفيذ معاملات الاعتمادات المستندية والتحويلات الخاصة بالمستوردات التجارية.

بالتوازي، يسجل مصرفيون اعتماد البنك المركزي لموقف محايد في حلبة الاشتباك المصرفي مع جهات قضائية، رغم تعرض الحاكم لدعاوى مماثلة، ولا تزال نشيطة بأبعادها المحلية والخارجية. فيما يلفت المسؤول المصرفي الى جسامة المخاطر الناجمة عن شبهة غسل الأموال على كل مكونات القطاع المالي وشبكة علاقاته مع البنوك المراسلة، مما سيفضي عاجلاً أم آجلاً الى صعوبات وتعقيدات حادة تصيب المعاملات والتحويلات بين لبنان والخارج.

وفي المعطيات الميدانية، يتولى فريق من محامي المصارف وجمعيتهم، عملية التفاوض المباشرة مع المرجعيات القضائية المعنية ضمن أجواء تتسم بالايجابية الحذرة، توخياً لتصويب بعض الممارسات التي ترافق الملاحقات القضائية، ولا سيما لجهة مواكبتها بمبالغات اعلامية تمس بقرينة البراءة ازاء بعض الادعاءات او الشكاوى المؤذية للكيانات المصرفية، وليس لأشخاص ادارتها ومساهميها حصراً، وبالأخص بينها وصف " الجرائم المالية" وتبييض الأموال.

ومع توالي تأكيدات الاستجابة المصرفية لطلبات القضاء، اكد المسؤول المصرفي ان مشروعية التوجس من الاستهداف الممنهج، تستند فعلياً الى قرائن متزامنة تزخر باشارات "الريبة". ففي الاساس تجري "الملاحقات" من جهة قضائية ذات ارتباطات سياسية غير خافية على أحدز وبالمثل يتم "انتقاء" بعض المصارف وليس جميعها من المشاركين في الهندسات المالية التي جرت مع البنك المركزي وسائر الاتهامات، ثم يجري تنظيم تحركات باسم جمعيات مودعين تتعمّد الاضرار بممتلكات مصرفية ( فروع تابعة) او بأملاك شخصية تعود لمصرفيين.

ويثني المسؤول على استنتاجات الاجتماع الأمني الموسع في السراي الحكومي في اعقاب محاولات احراق بعض الفروع المصرفية، والتي تتفق تماماً مع هذه الهواجس المتكاثرة في اوساط المصرفيين. ولعل الترجمة النموذجية تكمن في الاشارة المرمّزة لرئيس الحكومة الذي صارح المجتمعين بقوله "كأن هناك "فقسة زر" في مكان ما. ليسأل تالياً عما اذا "كان هؤلاء من المودعين أم أن هناك ايعازاً ما من مكان ما للقيام بما حصل" ؟. ليستنتج "ان جهة ما مستفيدة تسعى الى اغراق لبنان بالفوضى لهدف لم يعد خفياً على احد".