اوكرانيا تنتظر الربيع الحاسم

  • 2023-01-29
  • 10:31

اوكرانيا تنتظر الربيع الحاسم

  • د. وليد صافي

استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية

 

قبل عام تقريباً، هاجم بوتين اوكرانيا وظن أنه قادر على اخضاعها خلال ايام، ثم فجأة ظهرت الحسابات الخاطئة لدى القيادة الروسية والإخفاق الاستخباراتي، اذ فاجأت القوات الاوكرانية العالم بأجمعه، ولاسيما الحلفاء الغربيين بصلابة المقاومة الاوكرانية، وثبات الروح القتالية العالية لدى الجنود الاوكرانيين. في المقابل، اظهر الجيش الروسي مشاكل بنيوية كبيرة على مستوى الهياكل القيادية والتنسيق والمرونة واللوجيستية، وعلى مستوى الروح القتالية المتدنية لدى الجنود الروس. وبالنتيجة ظهر جيش بوتين الذي انفق عليه مليارات الدولارات في العقدين الاخيرين انه غير قادر على تحقيق الاهداف السياسية لبوتين المتعطش للانتقام من ما يسميه الاذلال الذي تعرضت له روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وبسرعة غير مسبوقة، تحوّلت اوكرانيا بعد ان تراجعت حظوظ الدبلوماسية الفرنسية والالمانية الى ساحة مواجهة غربية روسية، اذ تدرج التحالف الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الاميركية بخططه ومساعداته العسكرية والامنية والاستخباراتية للجيش الاوكراني من تكبيد بوتين ثمناً غالياً لحربه الى قرار اضعاف روسيا والحاق الهزيمة فيها واجباره على الانسحاب من الاراضي التي سيطر عليها. ولا يبدو أن اياً من فرقاء الصراع قد تعب او في وارد اعادة حساباته في ضوء التطورات الميدانية في اقليم دونباس او الجنوب الاوكراني، او المخاطر في اتساع دائرة الحرب. وعلى العكس، تحولت المواجهة في اوكرانيا الى معركة "قاتل او مقتول"، اذ نجح التحالف الغربي  في الاتفاق على تزويد اوكرانيا بأحدث الدبابات الالمانية Leopard 2 وابرامز الاميركية وتشالنجر البريطانية وذلك بعد اسابيع من التجاذبات وكان قد ضاعف هذا التحالف من حجم المساعدات في انظمة الدفاع الجوي المتطورة وبطاريات مدافع الميدان والعربات القتالية المصفحة.

بوتين عازم على اكمال مشروعه الجيوسياسي                                                                    

يحتاج بوتين الى انجازات ميدانية ينتظرها بفارغ الصبر بعد ان تحولت استراتيجيته القريبة المدى الى تحرير الحدود الادارية لجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك وتأمين التواصل الجغرافي بين شبه جزيرة القرم واقليم دونباس في الشرق، كمقدمة للانقضاض على الجنوب الاوكراني لعزل اوكرانيا عن البحر الاسود، كما تمّ عزلها في بداية الحرب عن بحر آزوف. اصرار بوتين على تحقيق هذه الاهداف ينطلق من مشروعه الجيوسياسي الذي يهدف الى استخدام البوابة الاوكرانية لاعادة بناء المجال الحيوي الروسي وهندسة الامن الاوروبي بعد توسع حلف شمالي الاطلسي نحو الشرق. كما يهدف إلى تعظيم دور روسيا في نظام دولي يريده بوتين بالتفاهم مع الصين نظاماً متعدد الاقطاب وغير خاضع للقيم الليبرالية.

ومن الواضح أن هذا المشروع الجيوسياسي مبني على اطروحة ألكسندر دوغين، التي تستمد روحها من التراث الارثوذكسي الروسي، ومن المفهوم الواسع لاوراسيا "وحضارتها المميزة" التي لا تتفق مع الحضارة الغربية، إذ تحمّل هذه الاطروحة الغرب مسؤولية سقوط الاتحاد السوفياتي الذي يعتبره بوتين "أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين". ايديولوجية الكسندر دوغين التي يتبناها بوتين، تبشر بأن لروسيا "مهمة  تاريخية يجب انجازها في فضاء دول الاتحاد السوفياتي السابق"، كما لها "من دور حاسم يجب ان تلعبه على مستوى العالم"، أما ادوات تحقيق هذا الدور، فهي بنظر دوغين "التوسع المستمر" إذ "إن الحرب بنظره متأصلة بشكل دائم في التاريخ الروسي؛ ويجب أن يُنظر إليها على أنها ضرورة أو حتى هدف لروسيا". بوتين المولع في هذا المشروع لا يبدو أنه في وارد التراجع عن اهدافه، ويرى في الصراع الصيني الاميركي وفي التقارب الاستراتيجي الصيني الروسي إحدى اهم المحطات للنفاذ في هذا المشروع . وعلى المستوى العملاني، وعلى الرغم من الانتكاسات التي واجهها الجيش الروسي الذي بات يقاتل خلف قوات فاغنر، ما زال بوتين يعتقد انه قادر على إعادة هيكلة الجيش وبناء جيش محترف مؤلف من مليون وخمسمائة الف جندي في السنوات المقبلة، وما زال ايضاً بإمكانه الرهان على التفوق الروسي في الجو والبحر وفي ترسانة الصواريخ الباليستية والاستراتيجية لتحقيق النصر في اوكرانيا، لذلك تشير التوقعات الى انه بعد انجاز تعبئة اكثر من 150 الف مقاتل وتحقيق بعض المكاسب الميدانية في الشرق، يتحضر لاطلاق هجوم واسع النطاق بهدف اكمال السيطرة على اقليم دونباس والتحضر لمعركة الجنوب التي تشكل بالنسبة اليه احد اهم الرهانات للمضي قدماً في تحقيق مشروعه الجيوسياسي. بوتين الذي ينظر الى حدود روسيا الغربية من زاوية هذا المشروع، يبدو انه يستعد حالياً لارسال فيلق للمرابطة على الحدود الروسية الفنلندية والذي يمثل خطوة متقدمة في مسار تطور المواجهة، ورسالة الى الاميركيين والاوروبيين مفادها انه جاهز لتوسيع المواجهة وتهديد دول البلطيق التي يرى في انضمامها الى حلف شمالي الاطلسي تهديداً للامن القومي الروسي، كما يرى ان مشروع انضمام فنلندا والسويد الى الحلف هو جزء من الحرب في اوكرانيا التي بات يتعامل معها كساحة مواجهة مع الغرب. هل ينجح بوتين بالسيطرة الكاملة على دونباس وفتح الطريق نحو السيطرة على الجنوب، ام يغرق اكثر في الوحول الاوكرانية وتتغير المعادلة في اوراسيا؟

التحالف الغربي نحو اقامة التوازن

استطاع التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية حتى الآن من تكبيد بوتين ثمناً غالياً لاحتلاله اجزاء من اوكرانيا، كما نجح في عدم التورط المباشر وفي تجاوز المخاوف التي سيطرت على قادته في بداية الحرب والخوف من استفزاز روسيا من خلال رفع مستوى ونوعية الدعم العسكري والامني للجيش الاوكراني. صحيح أن التحالف الغربي غادر مربع الخوف من الابتزاز الذي مارسه بوتين عبر التلويح باستخدام اسلحة التدمير الشامل، ولكن خيار عدم التورط المباشر في الحرب ما زال محسوباً بدقة لدى الاميركيين والاوروبيين وبشكل خاص لدى قادة فرنسا والمانيا. وتحت سقف عدم الانخراط المباشر في الصراع، ادرك التحالف الغربي متأخراً ان العقوبات غير المسبوقة على روسيا، لم تجفف خزانة بوتين ولم تمنعه من الاستمرار في مشروعه، اذ حققت روسيا بحسب نائب رئيس الوزراء الروسي زيادة في عائدات النفط والغاز بنسبة 28 في المئة العام 2022 مقارنة مع العام 2021. وباستثناء العرض الديبلوماسي الاميركي الخجول على بوتين في تخفيف العقوبات مقابل عودته للتفاوض بجدية مع اوكرانيا، لا تظهر اي مبادرة دبلوماسية جدية لتغيير مسار المواجهة المقبلة. ولعل ما ورد في الفورين افيرز في مقال لرئيسة وزراء استونيا بعنوان " لا سلام بشروط بوتين"، يختصر المخاوف العميقة للبلدان الواقعة في المجال الحيوي للاتحاد السوفياتي السابق اذ قالت: "الآن ليس الوقت المناسب للدفع من أجل السلام السابق لأوانه، ما لم تتخل روسيا عن هدفها المتمثل في غزو أراض جديدة في أوكرانيا، فإن محادثات السلام ليست لديها فرصة تذكر لتحقيق أي شيء. يظهر التاريخ أن الاسترضاء يقوي المعتدين ويشجعهم فقط وأنه لا يمكن إيقاف المعتدين إلا بالقوة. بصفتي رئيس وزراء إستونيا، وهي دولة في الخطوط الأمامية في الناتو تحملت نصف قرن من الاحتلال السوفياتي، أعرف ما يعنيه السلام بشروط روسيا حقاً. لن يعني السلام الروسي نهاية المعاناة بل المزيد من الفظائع. الطريق الوحيد للسلام هو طرد روسيا من أوكرانيا".

من الواضح أن سياق المواجهة الغربية الروسية في اوكرانيا اجتاز عتبة مرحلة جديدة، والتحالف الغربي الذي وضع قدماً ثابتة في العمق الاوراسي، لا يبدو انه بوارد تقديم تنازلات لبوتين او التراجع عن رأس الجسر هذا. وعليه، بات الرهان على المدى القريب يتركز على تمكين الجيش الاوكراني - من خلال تدفق السلاح النوعي والدبابات المتطورة والدعم الاستخباراتي واللوجيستي وتدريب القوات- من وقف الهجوم الروسي المفترض وحرمان بوتين من مكاسب ميدانية مهمة، إذ تتوقع واشنطن وحلفاؤها هجوماً روسياً هذا الربيع، نحو مارس أو أبريل. اما على المدى المتوسط والبعيد، فقد باتت استراتيجية الاميركيين وبحسب وزير الخارجية بلينكن تتركز على" ردع اي هجوم روسي في المستقبل واقامة التوازن والسلام العادل، وعلى مرحلة ما بعد الحرب لجعل اوكرانيا قادرة على ردع روسيا في المستقبل". ولاجل انقاذ هذه الاستراتيجية، وتفادي اي تصدع في التحالف الغربي، وافق بايدن على تزويد اوكرانيا بكتيبة من دبابات ابرامز الاميركية الصنع، وذلك لتشجيع المانيا على ارسال دبابات ليوبارد2، وتلبية احد شروط المستشار الالماني شولتز بعدم ترك المانيا تواجه وحيدة الموقف الروسي من تزويد اوكرانيا بدبابات هجومية متطورة. وقد عبّر بايدن بتصريحة عقب قراره هذا، بأن "واشنطن تركّز على الحفاظ على كتلة غربية موحدة، بعد عام تقريباً من بداية الحرب. كتلة تقدمت دائماً معاً، على الرغم من الفروق الدقيقة، سواء على العقوبات الفردية والقطاعية ضد روسيا أو المساعدات العسكرية التي قدمت الى اوكرانيا. ولو استمر الخلاف بين الحلفاء بشأن الدبابات، لكان بإمكان موسكو أن ترحب بأول تصدع مؤكد داخل الحلف الأطلسي".

المواجهة في الربيع القادم اصبحت حتمية، والسباق مع الوقت لدى اطراف الصراع على اشدّه لبلوغ ساعة الصفر. لكن التكهن بنتائج هذه المواجهة صعب وشديد التعقيد، ولكن يجب الاستماع الى آراء الخبراء الذين يجزم بعضهم، بأن موسكو لديها مشكلات كبيرة في عمليات الحشد والتجنيد، وأن الدعم العسكري لكييف غير كافٍ لحسم المعركة. فهل يصدق الخبراء ويتكبّد فريقا الصراع خسائر فادحة ويعجز كل منهما عن تحقيق اهدافه، ويفرض خيار المفاوضات نفسه على الجميع ؟ ام تخسر روسيا وتتقدم المعادلة التي اعلنها ميدفيديف "بأن الدولة النووية لا تستطيع خسارة حرب تقليدية"، ويقع المحظور؟