صندوق النقد الدولي ولبنان والحلول الصعبة

  • 2020-02-25
  • 11:15

صندوق النقد الدولي ولبنان والحلول الصعبة

  • الياس بارودي

فيما يواجه لبنان أسوأ وأقسى أزمة اقتصادية ومالية ونقدية عرفها في تاريخه، يبدو واضحاً يوماً بعد يوم أنه لن يكون قادراً على معالجتها واجتراح الحلول لها بمفرده، ومن خلال طاقمه السياسي قديم العهد وقطاعه العام المهترئ وقطاعه الخاص المنهك. بل والأهم من ذلك، فإن الأزمة المصيرية التي تواجه لبنان اليوم تعكس الحاجة إلى إعادة هيكلة شاملة للاقتصاد اللبناني بجميع مقوماته وقطاعاته، وتطوير مفهوم جديد لموقعه الفاعل ودوره في الاقتصاد العربي والعالمي، وهي مهمة شاقة كان من المفترض بدء العمل فيها منذ عقود لولا اللامبالاة وغياب الرؤية على مختلف المستويات.

وبغض النظر عن كل ذلك وعن الفرص التي أضيعت وتكلفتها الضخمة على لبنان وشعبه، فإن المهمة الملحة اليوم هي في إيجاد الحلول الآنية الممكنة والمتاحة لتجنب الانهيار الشامل على الأقل، وللبدء بإعادة تثبيت الوضع الاقتصادي والنقدي والمالي. فالتقديرات والتوقعات التي أضحت متداولة، هي أن لبنان سيحتاج إلى ما بين 20-25 مليار دولار من الأموال الخارجية، سواء من المساعدات أم الاستثمارات كجرعة أولى لضخ السيولة في الاقتصاد وتصحيح وضعية المصارف ضمن حدود مقبولة، وتسديد الدفعات المستحقة على سندات اليوروبوند وتوفير النقد الأجنبي المطلوب لاستيراد المواد الحيوية. وغير ذلك من احتياجات لإعادة الاستقرار النسبي للسوق النقدية وفي سعر صرف الليرة اللبنانية.

 

لا استعدادات أو نوايا عربية للدعم

والمساعدات والقروض الأوروبية ستبقى محدودة

 

لكن باستثناء ما يقال بأن البنك الدولي على استعداد لتوفير مساعدة بنحو 400-450 مليون دولار لتمويل احتياجات غذائية وإنسانية، لا يبدو اليوم في الأفق استعدادات أو نوايا عربية لتقديم أي دعم يذكر، فيما ستبقى المساعدات والقروض الممكنة أوروبياً محدودة في أفضل الحالات. علماً أنه لا يمكن التعويل أيضاً ولو جزئياً على تقديمات مؤتمر "سيدر" المفترضة، والتي ترتبط بمشاريع واستثمارات محددة وستتطلب وقتاً غير قصير للبدء بصرفها.

بالنتيجة إذاً، يبدو اليوم أن لا خيار للبنان سوى التوجه نحو صندوق النقد الدولي طلباً للدعم والمساعدة، وذلك على الرغم من المواقف الداخلية، السياسية وغيرها، المعارضة للجوء إلى صندوق النقد الدولي، والتي قابلها موقف فرنسي أخير بأن لا مفر للبنان من هذا الخيار والقرار. وهو موقف أساسي، آخذاً بالاعتبار أن فرنسا تبدو حالياً، الدولة الأوروبية الأكثر استعداداً لمساعدة ودعم لبنان.

كيف يعمل برنامج صندوق النقد الدولي

والخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة اللبنانية في هذا المجال بالطلب من الصندوق إرسال فريق خبراء للمشورة والمساعدة في وضع مخطط للبدء بمعالجة الأزمة الشاملة، وتقرير ما يجب القيام به في مجال تسديد استحقاقات سندات اليوروبوند، قد تكون بدورها مدخلاً إلى دور أوسع وأشمل للصندوق تحتمه ضرورات استقدام الدعم التمويلي الدولي، وتجنّب الانهيار المالي وثم الاقتصادي الأوسع. فهل سيكون لهذا الدور مساوئ اقتصادية وسيادية أيضاً كما يتخوف المعارضين له، وكيف يمكن موازنة ذلك مع نتائجه؟ ولعل البرامج التي قام الصندوق بوضعها لكل من مصر والأردن في السنوات الأخيرة قد تساعد في توضيح الصورة وإعطاء الأجوبة المطلوبة.

 بداية لا بد من إيجاز كيفية عمل البرنامج الأساسي لصندوق النقد الدولي والذي يتمحور حول الاستدانة من الصندوق:

  1. عند الدخول في برنامج إصلاح اقتصادي بدعمه الصندوق من خلال تقديم التمويل الضروري، فإن على الدولة المعنية الموافقة على وضع برنامج إصلاح شامل يوافق عليه الصندوق ويقوم بمراقبة ومراجعة تنفيذه بشكل دوري.
  2. يكون للدولة المعنية مسؤولية اختيار وتصميم البرنامج وسياساته وتقديمه للصندوق بمثابة كتاب نوايا.

    يتم الاتفاق على التمويل الضروري لتنفيذ برنامج الإصلاح ويقوم الصندوق بتوفير هذا التمويل على دفعات وطبقاً لمساعدة تنفيذ البرنامج الإصلاحي المتفق عليه.

  3. قد يضع الصندوق شروطاً أولية على الدولة المعنية اتخاذها قبل موافقته على الدعم التمويلي ومنها مثلاً وقف سياسات الدعم أو القيود على الأسعار أو تعديل الميزانية العامة بما يتناسب مع مخطط الإصلاح وغير ذلك.
  4. يتم الاتفاق على معايير ومؤشرات رقمية ومؤشرات قطاعية أخرى لاعتمادها في مراقبة مسار تنفيذ مخطط الإصلاح وتحقق أهدافه المرحلية.

 التجربة المصرية

 وبالانتقال إلى أمثلة فعلية حول برامج الصندوق في كل من مصر والأردن ومسار تنفيذها ونتائجها:

في العام 2016 وافق صندوق النقد الدولي على تمويله لمصر بقيمة 12 مليار دولار ضمن ما يعرف بـ "برنامج التمويل الموسع" (Extended Fund Facility) وهو ما يوازي نحو 3.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر في حينه.

وصف صندوق النقد، الاقتصاد المصري في حينه بأنه يعاني من ضعف هيكلي يتمثل بارتفاع سعر صرف الجنيه المصري مما أثر على القدرة التنافسية وأدى إلى استنزاف احتياطي العملات الأجنبية وعجز متكرر في الموازنة العامة نتيجة لارتفاع تكلفة القطاع العام وسياسات الدعم الخاطئة، وتأثر القطاع السياحي بالوضع الإقليمي غير المستقر. وأوجه التشابه في كل ذلك مع وضع الاقتصاد اللبناني واضحة من دون شك.

  1. تضمن برنامج الإصلاح الذي تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد خطوات أساسية ومؤلمة في بعضها لتصحيح الخلل وتحسين الإنتاجية والتنافسية ومنها تعويم سعر صرف الجنيه المصري وتخفيض الدعم على المحروقات والطاقة وتطبيق ضريبة القيمة المضافة وتخفيض عجز الموازنة والدين العام وخطوات متعددة لتحفيز القطاع الخاص وتحسين بيئة الأعمال. ومجموعة سياسات وإجراءات لمساعدة طبقات المجتمع الفقيرة من خلال جزء من الوفر المتحقق في المالية العامة.
  2. انتهى برنامج الثلاث سنوات المتفق عليه مع صندوق النقد في شهر يوليو 2019 بنجاح واضح بحسب الصندوق الذي قام في حينه بتسديد الدفعة الأخيرة من التمويل. علماً أن تنفيذ البرنامج تخلله خمسة مراجعات من قبل الصندوق للتحقق من مسار الإصلاحات الموعودة.
  3. من أهم مؤشرات نجاح البرنامج بحسب أرقام صندوق النقد، ارتفاع نسبة النمو وتراجع الدين العام وانخفاض عجز الموازنة وكذلك العجز التجاري وعجز الحساب الجاري وارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في انخفاض الدين الخارجي ونمو احتياطي العملات الأجنبية وذلك كما يتبين أدناه. علماً أن الموازنة العامة حققت في 2018/2019 فائض بواقع 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وهو هدف أساسي للبرنامج.
  4. نتيجة للنمو الذي تحقق خلال الفترة وتنامي الاستثمار الأجنبي المباشر، فقد انخفضت نسبة البطالة من 12 في المئة في 2016/2017 إلى نحو 8 في المئة في 2018 بحسب آخر الأرقام المتوفرة.
  5. يبقى القول إنه نتيجة لتحرير سعر الصرف انخفض الجنيه المصري بشكل حاد في الربع الأخير من 2016 ليستقر بعد ذلك على مستوى 18 جنيه لكل دولار بالمقارنة مع 8.8 جنيه كما كان عليه السعر الرسمي في بداية السنة.
فعلية
2017/2016
أرقام أولية
2019/2018
أرقام متوقعة
2020/2019
نمو الناتج العام الإجمالي % 4.1 5.5 5.9
الدين العام نسبة للناتج المحلي % 103.2 85.2 81.9
عجز الموازنة العامة نسبة للناتج المحلي % 10.9- 8.2- 7.0-
عجز الحساب الجاري نسبة للناتج المحلي % 5.6- 2.6- 1.8-
الاستثمار الأجنبي المباشر الصافي
(مليار دولار)
7.8 6.5 8.1
الدين الخارجي نسبة للناتج المحلي % 41.3 33.3 30.5
احتياطي العملات الأجنبية
(مليار دولار)
30.7 43.9 43.7
المصدر: صندوق النقد الدولي

 

 

التجربة الأردنية

بالانتقال إلى الأردن التي لها تاريخ طويل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فقد وافق الصندوق أيضاُ في العام 2016 على برنامج تمويل موسع لمدة ثلاث سنوات بقيمة 723 مليون دولار لدعم برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي يهدف إلى تخفيض حجم الدين العام وإصلاح هيكلي واسع يحقق نمواً متكاملاً.

وكما بالنسبة لمصر فقد أشار الصندوق إلى خطة إصلاح متكاملة أعدتها الحكومة الأردنية لتحسين شروط النمو المتكامل والمحافظة على استقرار الاقتصاد الكلي وخلق فرص اقتصادية جديدة وفرص عمل وتقوية الثقة بالاقتصاد بشكل عام.

وجرياً على سياساته العادية، فقد شدد صندوق النقد على ضرورة تخفيض حجم الدين العام تدريجياً خاصة من خلال الحد من الإعفاءات من الضريبة على المبيعات والرسوم الجمركية وتحسين أداء شركة الكهرباء ومؤسسة المياه لوقف اعتمادها على الدعم وتحسين إدارة المال العام والمحافظة على مستوى مناسب من احتياطي العملات الأجنبية لدى البنك المركزي.

ومن الأهداف الأساسية التي حددت في هذه المجالات، تخفيض الدين العام إلى 77 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مع حلول العام 2021 وذلك مع المحافظة على المستويات المطلوبة من الإنفاق الرأسمالي وكذلك الإنفاق على البرامج الاجتماعية.

 وبمراجعة بعض المؤشرات الاقتصادية الأساسية المتوفرة منذ الدخول في البرنامج في شهر آب/أغسطس 2016 يتبين ما يلي:

  1. بلغ معدل النمو للفترة من 2016 إلى 2019، بحسب آخر الأرقام المتوفرة نحو 2.5 في المئة، وهو أقل مما كان مستهدفاً، أي نحو 3.7 في المئة. ويعزى ذلك إلى التحديات الإقليمية التي واجهت الأردن في الفترة المعنية، خاصة تأثير النزوح.
  2. بعد انخفاضه في 2015 و 2016، اتجه مؤشر الأسعار الاستهلاكية إلى الارتفاع بداية من العام 2017 وبلغ معدل 80 في المئة سنوياً في 2017-2020.
  3. اتجه العجز الإجمالي للقطاع العام إلى الانخفاض من 3.8 في المئة من الناتج المحلي في 2017 إلى ما يقدر بـ 3 في المئة في 2019.
  4. انخفض الدين العام الإجمالي من 94 في المئة من الناتج المحلي في العام 2017 إلى ما يقدر بـ 81.7 في المئة في العام 2019.
  5. كذلك انخفض عجز الحساب الجاري في ميزان المدفوعات من 12 في المئة من الناتج المحلي تقريباً في العام 2017 إلى 8.8 في المئة في العام 2020.

وفيما سار تنفيذ البرنامج دون عقبات تذكر، فإن صندوق النقد لم يخف انتقاده في نهايته لبطء الحكومة الأردنية في تخفيض عجز الموازنة، وبالتالي الدين العام. ورغم ذلك ورغم قول وزير المالية الأردني في أواخر العام 2019 بأنه لا يقبل تعليمات من صندوق النقد، فقد بدأت الحكومة الأردنية مفاوضات جديدة مع الصندوق على "برنامج تمويل موسع" جديد لمدة ثلاث سنوات يهدف إلى استكمال ما تحقق، وخاصة إلى تسريع النمو الاقتصادي.

ما يمكن استنتاجه بالنسبة للحالة اللبنانية

أولاً: إن الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي في لبنان هو اليوم أسوأ بكثير من الوضع المماثل في مصر والأردن والذي دفعهما إلى التوجه لصندوق النقد الدولي. ولبنان لا يمكنه الخروج من أزمته دون مساعدة الصندوق. وهي مساعدة أثبتت جدواها ليس فقط في مصر والأردن كما سبق، وإنما في العديد من الدول الأخرى.

ثانياً: إن التوجه نحو صندوق النقد سيجبر لبنان على وضع خطة إصلاح وإعادة هيكلة اقتصادية شاملة والعمل الجاد على تطبيقها، وهو أمر لم يقو على القيام به حتى اليوم رغم الحاجة الملحة له منذ سنوات.

ثالثاً: إن البرنامج الإصلاحي الذي سيطلبه أو يقترحه صندوق النقد الدولي لقاء توفير التمويل والمساعدة سيشمل إجراءات صعبة ومؤلمة كما حدث في دول أخرى، منها ما يتناول الضرائب والدعم وتقليص القطاع العام وترشيد المؤسسات العامة وغير ذلك. لكن الأمر بكل بساطة هو أن هذه الخطوات والإجراءات لا بد منها عاجلاً أم آجلاً وعدم اعتمادها حتى الآن هو ما أدى إلى الانهيار الحالي. فلبنان عاش لسنوات طويلة بأكثر من طاقته ولا يمكنه الاستمرار كذلك.

رابعاً: إن دور صندوق النقد الدولي في لبنان، إضافة إلى البيئة الجديدة التي خلقتها الثورة الشعبية الشاملة سيكون عاملاً أساسياً في التغلب على ثقافة الفساد والهدر التي أوصلت الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم.

خامساً: ولعل أهم من كل ما سبق، وفيما يواجه لبنان اليوم حالة عدم اكتراث من قبل الدول العربية والأجنبية والمستثمرين، ولا يمكنه بحسب المؤشرات الحالية الحصول على أي دعم أو مساعدات، فإن مجرد الدخول في برنامج انقاذ أو إصلاح مع صندوق النقد سيغير الصورة كليا ويعيد الاهتمام إليه على الصعيد الإقليمي والعالمي.