لبنان: الانكماش المصرفي يهدد بخسارة آلاف الوظائف و 8 تريليونات ليرة

  • 2021-02-22
  • 11:26

لبنان: الانكماش المصرفي يهدد بخسارة آلاف الوظائف و 8 تريليونات ليرة

تقرير لـ "اولاً- الاقتصاد والأعمال" حول اقتصاد لبنان في ظل الانهيار

  • دائرة الأبحاث

كما كان القطاع المصرفي والمالي في مقدمة القطاعات المتأثرة بالانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان، فإن إعادة هيكلة هذا القطاع وتحصينه، يعتبر مكوناً رئيسياً في أي خطة للانقاذ وشرطاً أساسياً لنجاحها، وذلك بمعزل عن الجدل القائم حول المصارف والقيود القائمة على السحب من الودائع.

لعب القطاع المصرفي اللبناني دوراً حاسماً في نهضة الاقتصاد اللبناني طوال العقود الماضية، وبلغ التمويل المقدم للقطاع الخاص قبيل الانهيار نحو 59 مليار دولار، ما يشكل أكثر من 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

المصارف اللبنانية تساهم بإعالة اكثر
من 170 ألف شخص بشكل مباشر وغير مباشر

كما لعب هذا القطاع دوراً رئيسياً في تمويل الانفاق العام على مرّ ثلاثة عقود، سواء بشكل مباشر من خلال الضرائب والرسوم، او غير مباشر من خلال تعبئة الموارد من مصادر داخلية وخارجية لتلبية احتياجات الدولة التمويلية لتغطية العجوزات المالية في الميزانية العمومية.

وهناك تخوف أن يؤدي استمرار الأزمة وغياب الاصلاح والتراجع الكبير في الانشطة المصرفية إلى خسارة الاقتصاد الوطني اكثر من ثمانية آلاف مليار ليرة، أي نصف المساهمة الاجمالية المتوقعة للقطاع في العام 2018، إضافة إلى فقدان آلاف الوظائف في القطاع المصرفي والقطاعات المرتبطة به، وتشير التقديرات إلى ان القطاع يساهم بإعالة اكثر من 170 الف لبناني بشكل مباشر وغير مباشر بعد احتساب موظفي المصارف وأفراد أسرهم، ومساهمته بتمويل وظائف القطاع العام وخلق فرص عمل في القطاع الخاص.   

تساهم البنوك بنحو 7 في المئة من ايرادات
الدولة من خلال الضرائب التي تدفعها

رافعة اقتصادية

ساهمت المصارف اللبنانية بتنمية قطاعات مهمة مثل العقار والاسكان والتعليم والطبابة والاتصالات والسياحة والتجارة، وساهمت أيضاً بتمويل مشاريع زراعية وصناعية وتكنولوجية ومؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم وأصحاب المهن الحرة، وهي قطاعات توظف نحو 1.2 مليون مواطن لبناني يعيلون قرابة 80 في المئة من المواطنين.

وبلغ تمويل المصارف للقطاع الخاص أكثر من 89 ألف مليار ليرة لبنانية (59 مليار دولار) موزّعة على أكثر من 620 ألف مستفيد مع نهاية العام 2018، وهو العام الأخير الذي شهد نمواً اقتصادياً صحيحاً في لبنان قبل ان تتراجع المؤشرات في العامين 2019 و2020 متأثرة بالأحداث السياسية والصحية،  فنما بذلك الناتج المحلي اللبناني من أقل من ألفي مليار ليرة في العام 1990 إلى نحو 86 ألف مليار ليرة في العام 2018.

كذلك ساهمت موارد المصارف، والتي تمت تعبئتها من مصادر داخلية وخارجية بدءاً من اوائل التسعينات، في تمويل مصاريف الدولة وملاقاة حاجتها إلى الاستدانة لتغطية العجوزات المالية، بما فيها عجوزات المرافق العامة، وفي مقدمها  شركة الكهرباء تحت تبرير الضرورة وضمان استمرارية تشغيلها، كما استعملت هذه الموارد لتمويل سلسلة الرتب والرواتب والتي استفاد منها أكثر من 300 ألف موظف حكومي، وقد قاربت ديون المصارف للقطاع العام 51 ألف مليار ليرة نهاية العام 2018.

ومن البديهي، أن تساهم عمليات جذب الاستثمارات وودائع العملاء بالعملات الأجنبية برفع احتياطات مصرف لبنان من العملة الأجنبية، وفي رفد ميزان المدفوعات بدفق ايجابي حتى بدء التحولات المالية المحلية بتأثير من انفجار الأزمة السورية في ربيع العام 2011، ومع توالي نمو المؤشرات السلبية، قام البنك المركزي بالعديد من الهندسات المالية في محاولة لاستقطاب اموال جديدة في فترات شهدت بوادر أزمات اقتصادية ومالية بدأت في العام 2014 وأسست للإنهيار الحالي.

استعمل المركزي هذه الاحتياطات للمحافظة على سعر صرف العملة المحلية في ظل غياب الجدية في الاصلاح الاقتصادي والحوكمة والشفافية في الانفاق العام، كما تحول البنك المركزي الى شريك رئيسي في تحمّل عجوزات المالية العامة واحتواء الخلل المالي العام عبر توجيه الجزء الأكبر من ميزانيته للاكتتاب المباشر في سندات الدين الحكومية بالليرة وبالدولار مستفيداً من الاحتياطات الأجنبية التي كوّنها خلال السنوات الماضية، ولا يزال المركزي يعتمد حتى الآن على هذه الاحتياطات لدعم المواد الأساسية من محروقات وطبابة وغذاء وذلك بعد أكثر من سنة على بداية انهيار الاقتصاد اللبناني.

المصارف والناتج

بلغت المساهمة المباشرة للقطاع المصرفي في الاقتصاد اللبناني نحو 5222 مليار ليرة لبنانية (3.45 مليارات دولار أميركي) في العام 2018، توزّعت بين أجور ونفقات استهلاكية واستثمارية ورسوم ضريبية، وذلك وفقاً للتقارير الصادرة عن جمعية المصارف.

وتشير توقعات دائرة الأبحاث في "أولاً-الاقتصاد والأعمال" أنه في حال احتساب المضاعف الاقتصادي (Economic Multiplier) الناتج عن دفع الضرائب وشراء منتجات وخدمات محلية بما يساعد في تنمية باقي المرافق الحيوية والقطاعات الاقتصادية، فإن المساهمة الاجمالية للقطاع المصرفي في الاقتصاد الوطني تبلغ 16972 مليار ليرة، وهو ما يعادل نحو 19.9 في المئة من الناتج المحلي للعام 2018.

 

مساهمة المصارف في الاقتصاد اللبناني
المساهمة المباشرة - مليار ليرة 5,222
المساهمة غير المباشرة - مليار ليرة 11,750
نسبة المساهمة الاجمالية من الناتج المحلي 19.9%
الضرائب على الأرباح - مليار ليرة 1,217
نسبة مساهمة الضرائب من إجمالي دخل الدولة 7.0%
عدد الموظفين 25,908
الأفراد المرتبطين بموظفي القطاع المصرفي 64,433
"المصدر: جمعية المصارف، توقعات "أولاً- الاقتصاد والأعمال

 

أكبر دافع للضرائب

بلغ إجمالي الضرائب التي تدفعها المصارف على أرباحها نحو 1217 مليار ليرة في العام 2018، وهي بالتالي تشكل نحو 9.5 في المئة من إجمالي الدخل الضريبي للدولة في ذلك العام و7 في المئة من مجمل ايرادات الدولة اللبنانية. ورغم ضعف الاحصاءات عن باقي القطاعات الاقتصادية، إلا انه من المرجح أن يكون القطاع المصرفي أكبر دافع للضرائب بين جميع القطاعات.

ولا تقتصر ايرادات الدولة على الضرائب المفروضة على أرباح المصارف، بل تتخطاها لتشمل الضرائب على فوائد المودعين ورواتب المستخدمين وغيرها، وبالتالي، فإن المصارف تساهم من خلال الضرائب التي تدفعها بأجور ورواتب أكثر من 21 ألف موظف في القطاع العام يقدر انهم يعيلون نحو 100 ألف مواطن لبناني. 

الموارد البشرية

بلغ عدد العاملين في المصارف اللبنانية 25,908 أشخاص في العام 2018، وفقاً للتقرير السنوي لجمعية المصارف، يعيلون نحو 64433 شخصاً عند احتساب باقي أفراد الأسرة، وهذا يعني أن القطاع كان يساهم بتوظيف 1,44 في المئة من القوة العاملة الوطنية، اما لو احتسبنا عدد العاملين في القطاع الخاص والمشمولين بالتغطية الصحية في لبنان، فإن هذه النسبة ترتفع إلى 8.5 في المئة لتصبح المصارف بذلك أكبر صانع للوظائف في لبنان بعد القطاع العام.

الى ذلك، بلغ إجمالي انفاق المصارف على مستخدميها 2291 مليار ليرة في العام 2018، شملت الرواتب والمكافآت والتعويضات العائلية والمدرسية والصحية، إضافة إلى المساهمات في صندوق الضمان الاجتماعي. وتساعد هذه الرواتب والتعويضات التي يتقاضاها موظفو المصارف على خلق فرص عمل في قطاعات أخرى، كذلك المصاريف التي تدفعها المصارف الى الموردين للمواد التشغيلية والاستهلاكية، ومنها على سبيل التعداد لا الحصر، شركات التقنيات والكمبيوتر والتجهيزات المكتبية والمكاتب القانونية والمحاماة وشركات التأمين والاعلام والاعلان وشركات الأمن وغيرها الكثير من المصاريف التشغيلية التي تساهم بتنشيط مواز لقطاعات أعمال ذات صلة وخلق فرص عمل في الاقتصاد اللبناني.

وقدرت دائرة الأبحاث في "أولاً-الاقتصاد والأعمال" هذه الوظائف الشبه المباشرة بنحو 2083 وظيفة يستفيد منها قرابة 10 آلاف شخص.

وفي المجمل، يقدر بأن القطاع المصرفي يساهم بإعالة اكثر من 170 ألف شخص بعد احتساب موظفي المصارف وأفراد أسرهم، ومساهمته بتمويل وظائف القطاع العام وفرص العمل الاخرى التي يساهم بخلقها في القطاع الخاص.

 

 

دومينو الانهيار

في حال تواصل انهيار هذا القطاع، لن يكون مفاجئاً أن تعمد المصارف إلى تسريح دفعات جديدة من موظفيها ربطاً بتراجع أعمالها وتقلص أحجامها وميزانياتها في ظل انكماش الناتج المحلي من نحو 52 مليار دولار، الى أقل من 19 ملياراً وفقاً للمحددات التي اعتمدها صندوق النقد الدولي، أو نحو 24 مليار دولار بحسب تقديرات من مؤسسات دولية أخرى.

ففي حال المطابقة الحسابية البحتة، وبمعزل عن البعد الاجتماعي الذي تحاول البنوك مراعاته، تشي الترقبات بأن نصف موظفي القطاع باتوا مصنفين خارج خط الانتاجية، وبما يشمل العديد من الأقسام والادارات بعد ان ضاقت العمليات اليومية الى حدود السحب من الودائع وادارة السيولة وتلبية الحاجات الضرورية للزبائن، وبالتالي، هناك مخاطر صرف آلاف الموظفين من القطاع ما يعني تضرر أكثر من 32 ألف شخص من موظفي المصارف وأفراد أسرهم. وهذا ما سيفقد الاقتصاد الوطني نحو 3723 مليار ليرة، هذا من دون احتساب عامل التضخم المرتفع جداً ما بين العام 2018 ونهاية العام الماضي، وفي حال احتساب نسبة التضخم، فإن هذه القيمة تتضاعف إلى نحو 7018 ملياراً.

أما الخاسر الثاني، فهي الدولة اللبنانية، اذ ستتقلص قيمة الضرائب التي تحصلّها من أرباح المصارف نتيجة التراجع المستمر في أرباح القطاع منذ العام 2018. وريثما يتم البت تشريعياً بالضريبة المقترحة تحت مسمى "التضامن الوطني" التي تطول شرائح الودائع التي تفوق المليون دولار أو 1500 مليون ليرة. وتشير التقديرات إلى أن انخفاض الفوائد على الودائع قريباً من الصفر ينسف عملياً الجزء الأكبر من المدخول الضريبي المحدد بنسبة 10 في المئة من مردود الفوائد، بينما لن تتمكن بنوك عدة من تسجيل أرباح مالية في العام 2020 نتيجة تراجع الايرادات وارتفاع المخصصات، وهو ما سيفقد الدولة ايرادات ضريبية بمئات المليارات. وسيزيد ما تقدم الفجوة في مالية الدولة في حين لن يكون سهلاً الاستحصال على المزيد من القروض لتغطية العجز وهو ما سيضطرها إلى مواصلة طباعة العملة، ما يعني المزيد من الضغوط على سعر الصرف.

ولن تقتصر تداعيات انكماش القطاع المصرفي، في حال استمرارها، على ما تقدم، بل ستتعداها لتشمل مختلف القطاعات الاقتصادية بما فيها العقار والاتصالات والسفر والاعلانات والطاقة وغيرها.

ففي الشق العقاري مثلاً، تنتشر المصارف عبر 1080 فرعاً في لبنان، وفقاً لبيانات جمعية المصارف للعام 2018، وتعتبر غالبية هذه الفروع غير مملوكة من البنوك بل إنها تستأجرها من القطاع الخاص. وفي حال الاتجاه لغلق نصفها، فإن هذا سينعكس سلباً على ايرادات ملاك هذه المباني من أفراد وشركات. فعلى سبيل المثال، بلغ إجمالي نفقات بنك "سوسيته جنرال" على الايجارات نحو 20.8 مليار ليرة في العام 2018 بينما بلغت ايجارات بنك "البحر المتوسط" 17.8 مليار و"بنك بيروت" 13.3 مليار، وهو ما يظهر حجم الانفاق الكبير من البنوك على الايجارات. إضافة إلى ذلك، فإن المصارف تمتلك محفظة عقارية ضخمة تضم عقارات كانت قد استحصلت عليها كضمانة مقابل قروض قدمتها، وفي حال اضطرارها لتسييل بعض العقارات، سيزيد العرض وقد ينتج المزيد من الضغوط الهبوطية في السوق العقارية.

أما على صعيد الاعلانات والتسويق، فيعتبر القطاع من الأكثر انفاقاً في لبنان. وتشير أرقام ميزانيات المصارف أن انفاقها التسويقي تجاوز 143 مليار ليرة في العام 2018. وفي حال خفض هذه القيمة بنحو النصف، فإن هذا سينعكس انكماشاً اقتصادياً بنحو 464 ملياراً.

كذلك، ستنخفض مساهمة المصارف في صندوق الضمان الاجتماعي بعد أن كانت قد تخطت 211 ملياراً ليرة في العام 2018، كما سينخفض انفاق البنوك على القطاع الصحي وشركات التأمين، وكذلك الحال بالنسبة الى باقي القطاعات التي ستتأثر بشكل كبير بتراجع أداء المصارف المالي.

وبالتالي، فإن ترنح القطاع المصرفي - الذي أصبح آخر القطاعات الصامدة بعد سلسلة انهيارات طالت جميع المرافق الحيوية شملت تفجير المرفأ وشلل حركة المطار وجمود العقار وتوقف السياحة، وتعثر القطاعات الانتاجية الاخرى - سيؤدي هذا الترنح إلى تدمير ما سلِم من البنى التحتية في الاقتصاد اللبناني وتهجير ما تبقى من الشباب وتفقير من نجا حتى الآن من جائحة الجوع والعوز والتي تعتبر أشد فتكاً من جائحة كورونا.