هل بات لبنان على أبواب هجرة تاريخية جديدة؟

  • 2020-06-12
  • 10:12

هل بات لبنان على أبواب هجرة تاريخية جديدة؟

  • أحمد عياش

يستعدّ لبنان لمعاودة اتصاله مع العالم الخارجي خلال أسابيع قليلة، عن طريق إعادة العمل في منافذه الجوية والبحرية، وذلك تماشياً مع خطوات إقليمية ودولية على هذا المستوى بعد حظر إستمر شهوراً بسبب جائحة كورونا. فما هو المتوقع أن يشهده لبنان عندما يعاود حركة الملاحة ولاسيما في مطار رفيق الحريري الدولي؟

 

إنها هجرة الأدمغة

 

تحدثت معلومات رسمية عن قيام الأجهزة الحكومية المعنية بتحضير كل الخطوات الواجب اتخاذها في شأن الحفاظ على سلامة المسافرين على مستوى الوقاية من الوباء، لكن عدداً من المسؤولين بدأ يتحدث عن موجة من الهجرة تكاد تكون فريدة من نوعها منذ أن بدأ لبنان يعرف موجات من الهجرة العام 1918 التي لا تزال آثارها متداولة جيلاً بعد جيل. فأي نوع من الهجرة يخشاها المسؤولون اليوم؟

إنها هجرة الأدمغة التي يستعد لبنان لمواجهتها والتي بدأت معالمها تتكوّن، ومن مؤشراتها الأولى هو إبلاغ عدد من كبار الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات الخاصة الكبرى من يعنيهم الأمر، أن التراجع الكبير في سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي أدى إلى انخفاض مماثل في مداخيل هذه الفئات بسبب تلقيهم أتعابهم بالليرة، الأمر الذي أدى الى إضمحلال قدراتهم الشرائية وتلبية مستلزمات القيام بأعمالهم ولاسيما منهم الأطباء. ويروي مسؤول ما سمعه من طبيب معروف أن الأخير لم يعد قادراً على توفير المواد الطبية اللازمة في عمله بسبب فقدان القدرة على استيرادها بالعملات الصعبة.

 

مراسلات بين بيروت والعواصم الكبرى:

أهل الاختصاص يتحضرون للعودة إلى الخارج

 

ما يؤكد هذه المعطيات أيضاً، أن المراسلات التي بدأت بين بيروت وعدد من العواصم الكبرى تشير إلى أن هذه النخبة من أهل الاختصاص في القطاعات المشار إليها بدأت تحضر للعودة إلى مزاولة أعمال سبق لها أن مارستها في أقطار خارجية قبل أن يجذبها الوطن في العقود الثلاثة الماضية للعودة إلى ربوعه بعد تغيّر أحواله بما سمح بالاستقرار المهني والاجتماعي في الوطن. ويقول طبيب يحمل شهادات عليا من الولايات المتحدة الأميركية أن هناك فرصاً متاحة الآن هناك لمزاولة مهنة الطب. وقدّر هذا الطبيب حاجة القطاع الصحي الأميركي اليوم إلى أكثر من مئة ألف طبيب، والأفضلية بينهم لمن يحمل اختصاصاً من الجامعات الأميركية، في وقت أن هناك كثرة من اللبنانيين الذين يتمتعون بهذه المؤهلات.

ما يمكن الحديث عنه في مجال الطب، ينطبق أيضاً على قطاع التعليم الجامعي الخاص الذي عرف منذ بداية التسعينات من القرن الماضي نهضة لافتة للإنتباه نتيجة اجتذاب هذا القطاع كفاءات تعليمية رفيعة المستوى وذات شهرة عالمية. والآن، وبعد تراجع موارد القطاع الى مستويات متدنية جداً، إما بسبب عدم قدرة الأسر على دفع الاقساط الجامعية بالدولار فيما مداخيلها بالليرة، وإما لعدم قدرة المواطنين على الوصول إلى ودائعهم بالعملات الأجنبية في المصارف التي صارت في حال عجز كامل عن تلبية السحوبات بهذه العملة ولاسيما الدولار الأميركي. ومن الأمثلة المتداولة حالياً ما يتعلق بالقسط الجامعي في إحدى كليات الطب المرموقة التي تتقاضى المبالغ بالدولار، فقد أصبح هذا القسط في ضوء سعر صرف تجاوز الخمسة آلاف ليرة للدولار، قرابة 250 مليون ليرة، وقدّرت معلومات أن نحو ألف طالب في الجامعة الأميركية في بيروت ينتمون إلى عائلات يعيلها موظفون كبار وضباط من ذوي الرتب العليا كان بإمكانهم تسديد كلفة تعليم أبنائهم قبل بدء مرحلة إنحدار سعر صرف العملة الوطنية، ما يجعلهم الآن في حالة عجز كامل عن دفع الاقساط الجامعية. في المقابل، يقول مسؤول كبير في هذه الجامعة، انها لم تشهد منذ تأسيسها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مثل هذه الازمة التي تواجهها اليوم. ويقود هذا الكلام الى ان الكوادر التعليمية البارزة في الجامعات الخاصة المتقدمة هم حالياً على لائحة المهاجرين في المدى المنظور.

 

تقديرات: نحو مليوني لبناني يتحضرون للهجرة

بسبب العنف الاقتصادي

 

في غياب الأرقام الرسمية حول التحوّلات التي يمرّ بها لبنان، تشير التقديرات الأولية المستقاة من مصادر عدة إلى أن آخر موجة هجرة عرفها لبنان في عقد الثمانينات من القرن الماضي بسبب النزاعات الدموية التي عصفت به أدت إلى رحيل ما يقارب مليونيّ مواطن في اتجاه الأقطار القريبة والبعيدة، ولن تكون هناك مبالغة في القول إن رقماً مماثلاً مرشح للهجرة بسبب العنف المعيشي الذي أعاد الى أذهان الكثيرين زمن المجاعة التي عرفها لبنان العام 1918.

في دراسة أعدّها الباحث مهنّد الحاج علي في تشرين الثاني/ نوفمبر العام 2018 ونشرها مركز كارنيغي للشرق الأوسط على موقعه الالكتروني إن مشاكل لبنان الاقتصادية في تلك المرحلة أرخت بظلالها على السكان الأشد هشاشة وفقراً، تحديداً اللاجئين. وقال: "نظراً إلى الصعوبات المتنامية، عاد اللاجئون السوريون والفلسطينيون مجدداً إلى خوض عباب البحار، سعياً إلى بلوغ سواحل الاتحاد الأوروبي." فهل جاء اليوم دور اللبنانيين ليلتحقوا بإخوانهم السوريين والفلسطينيين؟

لا جدال، في أن الاستقرار الذي عرفه لبنان بعد اتفاق الطائف سنة 1989 والذي جاء بعد حرب متعددة الوجوه على مدى 15 عاماً تقريباً، كان له الفضل في عودة العافية إلى هذا البلد ما جعله مثالاً يحتذى في قدرة الشعوب على النهوض من كبوتها مهما عظم خطرها. ففي بداية العام 1996 وبعد مرور ثلاثة أعوام على تسلمه رئاسة الحكومة، قال الرئيس رفيق الحريري، الذي كان رجل تلك المرحلة بلا منازع: "قبل أيام، كنت مع أحد المقاولين أتفقّد أحد المشاريع، فسألته عن عدد الموظفين لديّه، فأجاب: إنهم 1200 موظف، وسألته عما كان عددهم قبل 3 سنوات، فأجاب: كانوا عشرة، ونصفهم الآن من اللبنانيين، كما إن جميع المهندسين والمشرفين على الأعمال هم لبنانيون".

تلك كانت شهادة من رجل وصفته مجلة أميركية في حينه بـ "الرجل الذي أعاد إعمار بلده". هذا ما كان عليه لبنان قبل 24 عاماً، إنها بالطبع ليست بالمدة القصيرة، لكنها تبدو اليوم، وكأنها طويلة جداً نظراً إلى هذا التغيّر الهائل في أحوال لبنان. فأين هي المؤسسة التي تقول حالياً أن لديها موظفين، كما ذكر الحريري، هم لبنانيون من أصحاب الاخصاصات العالية ومنخرطون في إعمار بلدهم؟

 

بواعث القلق:

الرحيل طلباً لفرص العيش

 

ما يبعث على القلق، أن الحديث عن هجرة اللبنانيين بسبب الأحوال المعيشية، ترافق أخيراً ما أوردته إحدى وكالات الأنباء المحلية حول قرار السفارة السويسرية في لبنان إجلاء رعاياها من لبنان بعد التطورات التي حصلت على هامش التظاهرات يوم السبت في السادس من حزيران/ يونيو. وبالفعل، وصلت يوم أمس الخميس طائرة سويسرية هبطت في مطار بيروت وأقلت رعايا هذه الدولة تنفيذاً لهذا القرار.

قبل اليوم، وبدءاً من العام 1975، هاجر اللبنانيون من بلدهم طلباً للأمان، كما هاجروا في العام 1918 هرباً من مجاعة، أما اليوم، فالعنوان سيكون طلب فرص العيش، أي ما يمكن قوله، إن العامين 1918 و1975 شهدا هجرتين تاريخيتين، وعلى ما يبدو أن هذا البلد يستعد ليشهد هجرة تاريخية ثالثة، لن تكون أقل وطأة من سابقتيها، وها هي بوادرها الأولى تتوالى. فهل هذا هو قدر لبنان الآن، أم أن هناك ما سيغيّر إتجاه هذا القدر؟