خطة جمعية المصارف: هونغ كونغ لا زيمبابوي

  • 2020-05-21
  • 00:12

خطة جمعية المصارف: هونغ كونغ لا زيمبابوي

خمس ركائز تعكس مسار الانحدار الاقتصادي وتستعيد النمو

  • سليمان عوده

يعيش لبنان أزمة غير مسبوقة، يتطلب الخروج منها الكثير من المعاناة والألم، لكن إذا كان من الصعب تجنّب المعاناة في المدى القصير، فليس ثمة "ما يدعو إلى تعميق البؤس الجماعي في البلاد وتأخير الانتعاش الاقتصادي"؛ هذه هي الخلاصة التي خرجت بها جمعية مصارف لبنان رداً على الخطة الحكومية للإنعاش المالي، التي تنطوي برأي الجمعية على ثغرات عميقة وخطيرة من شأنها أن تقود البلاد، في حال تنفيذها، إلى كارثة اجتماعية واقتصادية. 

ترى الجمعية أن "خطة الحكومة ليست خطة اقتصادية بل مجموعة تمارين محاسبية"، خصوصاً أن تنفيذها سيحقق توازناً مالياً اسمياً وغير مستدام، سرعان ما سيعيد إنتاج اختلالات جديدة، ليُصار مثلما يحصل الآن إلى تصحيحها مجدداً من جيوب اللبنانيين. فالحكومة، في سعيها لاستعادة التوازن المالي المفقود وإخراج البلاد من عنق الزجاجة، تستعد للإجهاز على القطاع المصرفي، في خطوة لن تتأثر بها المصارف وحدها، بل ستترك نتائجها السلبية على ثلاثة ملايين مودع من لبنان وخارجه، فضلاً عن عشرات آلاف العاملين في القطاع، كما ستضرب الثقة بهذا القطاع إلى أجل غير مسمى، وبعبورها إلى التوازن المالي الاسمي مروراً فوق جسر المصارف والمودعين، فإن الحكومة تحدّ من فرص لبنان للعودة إلى سوق الائتمان ثانية، كما تحدّ من قدرة البلاد على جذب الودائع مستقبلاً، سواء أكانت من اللبنانيين أنفسهم في الداخل والخارج، أو من الأجانب. 

 

ضوء في آخر النفق

ترى الجمعية أن التخلف عن السداد الداخلي له مضاعفات كبيرة وخطيرة، قد تغرق لبنان في انكماش اقتصادي حاد من جراء التعثر الداخلي، من دون ضوء في نهاية النفق. في المقابل، فإن دعوة الحكومة مصرف لبنان أيضاً إلى التخلّف عن السداد قد يجعل من لبنان نسخة جديدة من زيمبابوي، التي شهدت انكماشاً اقتصادياً وانهياراً غير مسبوق لعملتها الوطنية، وتنبه الجمعية الحكومة إلى أن تطبيق خطتها المطروحة قد تقود إلى تقلص حاد في الإيرادات المالية، بحيث تتدهور العائدات الضريبيّة، في حين يتراجع الامتثال الضريبي، وسط إفلاس العديد من الأشخاص والشركات. 

وتؤكد الجمعية أن باب الخروج من الأزمة الراهنة ما زال مفتوحاً، بناء على ذلك، أصدرت خطتها البديلة للإنعاش الاقتصادي، في خطتها هذه، تقدم الجمعية مقاربة شاملة لإخراج لبنان من الأزمة التي يواجهها، بالاتكاء على ركيزتين أساسيتين، تتوافقان مع توجهات صندوق النقد الدولي ونهجه. تتمثل الركيزة الأولى في استجابة فورية ومتوازنة وفعالة تعالج احتياجات التمويل الخارجي، وتضع مسار المالية العامة والديون على مسار مستدام، في حين تتفادى في الوقت ذاته التخلف عن سداد الدين الداخلي، لأن من شأن خطوة مماثلة أن تترك عواقب مدمرة على المواطنين اللبنانيين وعلى سمعة لبنان والثقة المحلية والخارجية باقتصاده. أما الركيزة الثانية، فتقوم على إطلاق إصلاحات هيكلية في الأشهر المقبلة طال انتظارها، وترمي إلى تعزيز النمو الشامل والمستدام، والذي يتحقق بوصفه إحدى ثمرات التنويع الاقتصادي. 

 

محاور الخطة

ترى الجمعية أن لبنان يمكن أن يحقق نمواً اقتصادياً كبيراً وبنسبة تتراوح ما بين 5 و6 في المئة سنوياً من خلال اعتماد هيكلية اقتصادية تعزز مزاياه التنافسية، والأمثلة على ذلك متعددة من هونغ كونغ إلى إيرلندا وسنغافورة وغيرها، فهذه البلدان تتمتع بالخصائص ذاتها التي يتمتع بها لبنان، وأبرزها امتلاكها لرأس المال البشري المؤهل والمدرب، في حين تعاني من ندرة الموارد الطبيعية والأولية ومن محدودية المساحة الجغرافية قياساً بعدد السكان. وفي الوقت ذاته، تجاور هذه البلدان المذكورة بلدان كبيرة، وتلك تشكل في آن واحد عبئاً وميزة.

وتقوم مقاربة الجمعية لإخراج لبنان من أزمته الراهنة على تفعيل سبل الاستفادة من خصائصه المميزة إلى أقصى حد ممكن، وفي الوقت ذاته تفادي المأزق الذي أوقعته بها السياسات المطبقة سابقاً، وترتكز هذه المقاربة على خمس أولويات أو محاور رئيسية، يسمح تنفيذها كما تقول الخطة بتحقيق انتعاش اقتصادي ومالي سريع ومستدام، يلي الدعم المالي المتوقع من صندوق النقد الدولي الذي طلبته الحكومة في الأول من هذا الشهر. 

 

آلية التسوية

يتمثل المحور الأول في تنفيذ عملية إعادة هيكلة للدين العام بالشكل الذي يقلص إلى أدنى حد ممكن العواقب الوخيمة التي ستترتب على ما يناهز ثلاثة ملايين مودع في البنوك المحلية، واتساع دائرة الأضرار بالطبع لتشمل مفاصل الاقتصاد ككل، ويتحقق ذلك بالتوازي مع تهيئة الاقتصاد للخروج من دائرة الانكماش الحالية وتحقيق الانتعاش في مدى زمني أسرع، مع تعزيز حظوظ تسجيل معدلات نمو محتملة أعلى في المدى المتوسط. وترتكز مقاربة الجمعية في هذا المجال على تجنّب التخلّف عن السداد الداخلي، وتخفّض احتياجات التمويل الخارجي إلى نحو ثمانية مليارات دولار بدلاً من 28 ملياراً خلال الأفق الزمني ذاته لخطة الحكومة، وتشدّد مقاربة الجمعية على الدور الرئيسي الذي تلعبه، قانونياً ونظامياً، السلطات النقدية والرقابية في لبنان لجهة إعادة هيكلة القطاع المالي اللبناني وإعادة هيكلة وجدولة الدين العام. 

في سبيل ذلك، تتوخى الخطة آلية تسوية تشمل إنشاء صندوق حكومي لتخفيف الديون ("GDDF")، تساهم فيه الحكومة من خلال الأصول أو الممتلكات العامة بقيمة 40 مليار دولار، مقابل الحصول على 100 في المئة من أسهم الصندوق، أي كامل الملكيّة. ويصدر الصندوق أوراقاً مالية مضمونة طويلة الأجل بقيمة 40 مليار دولار، يحملها مصرف لبنان مقابل التسوية النهائية لدين الحكومة لصالح المصرف المركزي، ويتنازل مصرف لبنان للصندوق عن كامل محفظة اليوروبوند وسندات الخزينة اللبنانية، في حين يشطب الصندوق للحكومة، في المقابل، كامل محفظة الديون مقابل الأصول التي ساهمت بها، ويتم تحويل رصيد إيرادات الصندوق إلى الخزينة العامة بعد أن يسدد الصندوق الفوائد المتوجبة لمصرف لبنان. وتقول الجمعية إنه "يمكن تنفيذ هذا التبادل الداخلي الذي يجنب التخلف عن السداد بسرعة وسلاسة لصالح جميع أصحاب المصلحة، وبما يتيح للحكومة المضي قدماً في التعامل مع باقي المسائل والملفات الملحة". 

 

شبكة أمان اجتماعي

أما المحور الثاني من الخطة، فيقوم على وضع استراتيجية مالية متوسطة الأجل ومستدامة، تترك هامشاً واسعاً لتمويل التدابير الاجتماعية التي تشتد الحاجة إليها، بما في ذلك وضع شبكة أمان اجتماعي موسعة لمكافحة الفقر. وتشير الخطة إلى أن المضي قدماً في هذا المجال ستنجم عنه نتائج ملموسة، حيث ينتظر أن يسجل ميزان المدفوعات توازناً في حلول العام 2024. أما على الصعيد المالي، فسيتحقق فائض أولي واقعي في حدود 2,1 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2024، وهو ما يضع الدين العام في سياق إيجابي. في المقابل، فإن أداء المالية العامة سيشتمل على إنشاء شبكة أمان اجتماعي بقيمة غير مسبوقة نسبتها 4 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في حلول العام 2024، وتذكّر الخطة أن تحديد هذا المستوى من الإنفاق الاجتماعي لا يتم بشكل غير مدروس أو استرضائي، بل "نراه ضرورياً لتجنّب استمرار انحدار مواطنينا إلى الفقر والعوز".

ويتمثل المحور الثالث في سياسة نقدية تقوم على توحيد سعر الصرف، وتعالج الاختلالات الخارجية الهائلة، بينما تحتوي ضغوط التضخم وتجنب البلاد مساوئ التضخم المفرط. فتوحيد سعر الصرف، الذي ينبغي أن يتبع برنامج الدعم المقدم من صندوق النقد الدولي، يقدم شروطاً تحفيزية ينتظر أن تسهم في تحقيق انتعاش فوري للإنتاج المحلي، كما يستفيد منها قطاع السياحة في المدى الطويل، وهو قطاع عاكسته حديثاً ظروف تفشي وباء كورونا المستجد. في المقابل، ستشهد الزراعة تطوراً سريعاً ومفاجئاً، خصوصاً أن التقييم المبالغ فيه للعملة المحلية يثبط الزراعة المحلية ويحد من فرص تعزيز الصناعات المرتبطة بها. أكثر من ذلك، فإن توحيد سعر الصرف سيحد من احتياجات التمويل الخارجية الكبيرة التي تعرض لبنان لنقص حاد في التدفقات، ولاسيما في خضم أزمات عالمية كتلك التي نعيشها حالياً، أي أزمة كورونا. وفي هذا الإطار، فإن تدخل مصرف لبنان في تعويم العملة سيقتصر على حالات التقلب غير المبررة التي تعيشها العملة الوطنية. 

 

طريق الإصلاحات

ويقوم المحور الرابع على إعادة هيكلة القطاع المالي على أساس منهجي ومنظم، ينظر في كل حالة على حدة ويعالجها عند الحاجة، مع ترقية المسائل التنظيمية لتساوي المعايير الدولية المعتمدة في هذا المجال. أما المحور الخامس من الخطة، فيقوم على إيجاد استراتيجية لتنويع الاقتصاد، وإدخال إصلاحات هيكلية إليه، وبما يشمل تدابير مكافحة الفساد، وتخفيض تكلفة ممارسة الأعمال، فضلاً عن الإصلاحات ذات الصلة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تقليص حجم الاقتصاد غير الرسمي. وترتكز هذه المقاربة على تنويع الاقتصاد اللبناني من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج، والإستفادة من رأس المال البشري الضخم لإدخال لبنان بنجاح في اقتصاد المعرفة، وسيقترن هذا التنويع الاقتصادي بخطة لبنية تحتية طموحة وواقعية في مجال النقل والاتصالات مع إصلاحات هيكلية مطلوبة لهذه القطاعات.