السعودية في "اقتصاد كورونا": إجراءات لاستيعاب الأضرار

  • 2020-05-18
  • 10:36

السعودية في "اقتصاد كورونا": إجراءات لاستيعاب الأضرار

  • رشيد حسن

دخلت المملكة العربية السعودية إحدى أدق مراحل التكيّف الاقتصادي في تاريخها الحديث، وهي مرحلة تختلف جذرياً عمّا اعتادت عليه من موجات الصعود والهبوط السابقة في أسعار النفط، فهي الآن تتعامل مع متغيرات جذرية جديدة أحدثها وباء كورونا على اقتصادات دول العالم كافة، وهي متغيرات لا يتراءى في الأفق متى ستصل إلى حدّها وإلى أين ستقود دول العالم والاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة.

طبعاً هناك أولاً النتائج المالية المباشرة لصدمتين متزامنتين هما، صدمة فيروس كورونا والإجراءات الصارمة لاحتوائه وتكلفتها الاقتصادية العالية، ثم صدمة أسعار النفط الذي توفر مداخيله نحو 78 في المئة من الموارد التي تحتاجها الدولة للإنفاق على الاقتصاد.، وقد تحركت الحكومة السعودية بسرعة للتعامل مع هذا الجانب عبر خطط للإستدانة ضمن الحدود المقررة (سقف الـ 220 مليار ريال) مع العمل في الوقت نفسه، على خفض كبير في الإنفاق بقيمة 26 مليار دولار طال أكثر أبواب الميزانية بما فيها المشاريع الكبيرة المخططة للمستقبل، وتضمنت الإجراءات المالية زيادة ضريبة القيمة المضافة من 5 إلى 15 في المئة والتوقف ابتداء من شهر حزيران/يونيو المقبل عن دفع علاوات غلاء المعيشة إلى الموظفين والتي كانت أقرّت في العام 2018 وكانت تكلف الدولة نحو 13.5 مليار دولار سنوياً، لكن مع الاستمرار في توفير الدعم إلى الفئات الضعيفة من المجتمع من خلال تخصيص نحو 1.8 مليار ريال أخيراً لحساب المواطن الذي يوفر الدعم لفاتورة الكهرباء إلى نحو 12 مليون سعودي من أصحاب المداخيل المتدنية.

وبالطبع، تعزز هذه الإجراءات النهج الذي بدأته الحكومة إبان أزمة النفط في العام 2014 عندما بدأت تخفض الدعم على أسعار الطاقة وعدداً من الخدمات بهدف ترشيد استهلاك الموارد الأولية واعتماد ضريبة على القيمة المضافة حدد في مرحلة أولى بـ 5 في المئة وإضافة رسوم جديدة على الإقامات والتأشيرات وغيرها من الخدمات الحكومية، وكان الهدف الانتقال من مفهوم المواطن الذي يأتيه كل شيء من دون تكلفة إلى مفهوم "المواطن المكلّف" أي المسؤول عن الإسهام بقسط ولو بسيط في الميزانيات الحكومية   كما هي حال كل الدول الحديثة.

معالجة الوضع المالي

لكن بينما تسارع الحكومة إلى التعامل مع الحقائق المالية المباشرة وتضع المعادلات لتعويض النقص الكبير في المداخيل بما في ذلك خسارة نحو 12 مليار دولار سنوياً من موسم الحج والعمرة (نحو 7 في المئة من الناتج المحلي) فإنها تواجه في الوقت نفسه، استحقاقاً آخر أكثر أهمية يتعلق بالمراجعة التي لا بدّ من إجرائها قريباً لاستراتيجية المملكة الاقتصادية المتمثلة برؤية 2030 في المدى المتوسط ونوع التعديلات اللازمة في خطط وأولويات الإنفاق في ضوء المتغيرات الأخيرة، ومثل هذه السياسات المالية الجديدة قد لا تتضح تماماً قبل إعلان المملكة في أواخر العام لميزانية السنة المالية 2021.

هل ستبقى المملكة ملتزمة برؤية 2030؟

بالتأكيد، فالهدف المتمثل بتنويع اقتصاد المملكة بعيداً عن النفط والاعتماد الكبير عليه، بات مرتكز الاستراتيجية الاقتصادية للمملكة، وهي عملت من أجل تعزيز شروط تحقيقه على تطبيق إصلاحات شاملة وجريئة في كل الميادين، وكانت قد بدأت في قطف الثمار الأولى لهذه السياسة قبل ظهور وباء كورونا، وقد يحتاج الأمر إلى تقييم تداعيات هذا الوباء على برامج التحول المتفرعة عن رؤية 2030 على الأقل لجهة إعادة ترتيب الأولويات وحجم المشاريع وتعديل مواعيد التنفيذ.

لقد حدّدت رؤية 2030 أهدافها وخطط تحقيق تلك الأهداف في المناخ الدولي المتفائل لمرحلة ما قبل كورونا وخصوصاً لجهة تنامي حركة التواصل العالمي والنشاطات السياحية والتجارية والاستثمارية، وكانت السعودية وضعت بين أهدافها التحول إلى مقصد سياحي عالمي وفي الوقت نفسه، إحداث قفزة كبيرة في مداخيل السياحة الدينية من خلال تسهيل سمات الدخول وتحسين الخدمات في المواقع الدينية، ومن أهم العوائد غير المباشرة للنشاط السياحي، تلك المتعلقة بخلق فرص متنوعة للإستثمار والتجارة في مختلف المجالات.

واقع جديد

لكن السعودية تستفيق الآن على واقع جديد مناقض تماماً للوضع السابق الذي بنيت عليه فرضيات برامج التحول ومشاريعه وجداوله الزمنية، فنحن أولاً أمام احتمال انكماش غير مسبوق في اقتصادات الدول المتقدمة من دون استثناء تقدره منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD بنحو 25 في المئة من الناتج المحلي خلال العام الحالي وسيترافق ذلك مع معدلات بطالة لم ير العالم مثيلاً لها منذ الكساد الكبير في العام 1930، ونحن نتحدث عن 2020 فقط ومن دون وجود ما يشير إلى أن مسار التدهور الحالي سيتوقف في العام 2021، وفي هذه الحال، فإن الانكماش الحاصل في الاقتصاد الدولي قد يتفاقم إلى درجة أخطر ومعه معدلات البطالة، وتشير التصريحات الأخيرة لمنظمة الصحة العالمية إلى أن العالم قد يحتاج إلى أربع أو خمس سنوات للسيطرة على الوباء الذي قد يتحول إلى فيروس مقيم Endemic يمكن أن يتسبب بموجات وبائية متلاحقة.

من جهة ثانية، فإن المشاريع الكبيرة المخططة تعتمد على دخول المستثمرين الأجانب كشركاء فيها أو توافر التمويلات الدولية أو المحلية لها وهو ما يبنى عادة على إمكان استقطاب هذه المشاريع للناس وتحقيقها لمداخيل تبرر جدواها.

شبح الكساد الكبير

إن سياسة السعودية لا تختلف هنا عن سياسات الدول المتقدمة، وهو يتلخص في السعي إلى استيعاب صدمة الكساد والركود بأقل الأضرار الممكنة على الاقتصاد والمالية العامة، مع التركيز على حماية شبكات الأمان الاجتماعي. 

وأولوية صانعي القرار السعوديين هي الآن الحفاظ على أفضل قدر ممكن من التوازن في الميزانية العامة والحؤول دون تآكل الاحتياط الأجنبي وهذا يمكن تحقيقه عبر ضغط النفقات وزيادة المداخيل غير النفطية ولاسيما من الإجراءات الجبائية المباشرة التي تسير جنباً إلى جنب مع إجراءات تحفيز القطاع الخاص والأسواق.

سنوات عجاف مقبلة

الأمر المهم في نظرنا أن الإجراءات السعودية تستند إلى تحليل متحفظ للمدى المتوسط أو الطويل، ولهذا فإن غرضها هو تحقيق أهداف تتجاوز ميزانية العام 2020 إلى الاستعداد لسنوات صعبة قد تشهد استمرار ضعف الطلب على النفط وانكماش الاقتصاد العالمي نتيجة لأزمة كورونا، ولا شك أن جو التضامن القائم في المجتمع حول السياسات الحكومية يوفر المناخ الملائم لإدخال سياسات مالية متشددة تمكّن الدولة من الاستمرار في مكافحة جائحة كورونا والتعامل مع تبعات تراجع مداخيل النفط إلى أن تتضح صورة المدى البعيد، وعندها لكل حادث حديث.