الإستراتيجيات المالية في الخليج لمواجهة تحديات المرحلة

  • 2020-04-30
  • 22:01

الإستراتيجيات المالية في الخليج لمواجهة تحديات المرحلة

  • الياس بارودي

ليس من المبالغة القول إن دول الخليج العربي لم تواجه من قبل أزمة متعددة الجوانب كالتي تمرّ بها هذه الأيام من حيث تلازم إنخفاض حاد تاريخي في سعر النفط وتباطؤ إقتصادي تدريجي مستمر منذ بعض الوقت مع أزمة وباء كورونا التي أدت إلى شبه شلل في الحركة الإقتصادية في مختلف قطاعات الاقتصاد الخليجي أسوة بما يحدث على النطاق العالمي.

وفي ما تجهد الحكومات في الدول الصناعية والعديد من الدول الأخرى لتحفيز قطاعاتها الخاصة والتعويض عن خسائرها ضمن الحدود المعقولة، وتوفير تعويضات البطالة إلى العدد الكبير من القوى العاملة التي فقدت وظائفها، فإن الحكومات الخليجية قد تكون في موقع أكثر دقة من حيث أنها لاعب أساسي ومشارك للقطاع الخاص في الكثير من الأنشطة الإقتصادية الأساسية، لكن المطلوب منها اليوم أيضاً أن تلعب دوراً حيوياً في إعادة تحفيز إقتصادات المنطقة بعد ما أصابها من تراجع وركود.

وتبدو هذه المهمة صعبة جداً حالياً آخذاً في الاعتبار بشكل خاص الانهيار الحاصل في سعر النفط الذي لم يزل الدعامة الرئيسية للإقتصاد الخليجي. فسعر النفط اليوم هو في أدنى مستوياته منذ نحو 18 سنة بعد أن انخفض بنحو 67 في المئة عن معدله في نهاية 2019. والإتفاق الأخير لدول أوبك+ على تخفيض إنتاجها بـ 9.7 ملايين برميل لن يجدي نفعاً في سوق متخمة بالنفط المخزن فيما تشير التقديرات إلى أن احتياجات السوق حالياً وربما في المستقبل المنظور قد انخفضت بنحو 30 مليون برميل على الأقل مما كانت عليه في بداية السنة.

بمعنى آخر، فإن جميع الدول الخليجية ستواجه عجزاً كبيراً في ميزانياتها هذه السنة وربما إلى أبعد من ذلك وهو ما يضع قيوداً مؤلمة على قدرتها على الإنفاق وعلى دعم قطاعاتها الخاصة في مواجهة التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا. وتقديرات أخيرة لصندوق النقد الدولي تظهر صعوبة المشكلة المتوقعة في هذا المجال حيث بيّن الجدول أدناه مدى الفارق بين سعر النفط المطلوب لتحقيق التوازن في الميزانية الخليجية والسعر الحالي للنفط والمتوقع، والواضح من هذه التقديرات أن البحرين وعُمان هما في الوضع الأصعب تليهما المملكة العربية السعودية وثم دولة الإمارات.

 

 

سعر النفط الذي يحقق التوازن في الميزانية العامة (دولار للبرميل)
        الدولة  2020 2021
المملكة العربية السعودية 76.1 66.0
الإمارات العربية المتحدة 69.1 60.6
دولة الكويت 61.1 60.3
مملكة البحرين 95.6 84.4
سلطنة عُمان 86.8 79.8

                                                                            المصدر: "أولاً-الاقتصاد والأعمال"

 

وهذه الحقيقة تضع دول الخليج في حلقة مفرغة إلى حدّ ما حيث إنها بحاجة إلى ضخ تمويل في اقتصاداتها للتعويض أولاً عن أثر إنخفاض سعر النفط على النشاط الإقتصادي عامة ولمواجهة تحديات الإضطراب الواسع الذي أصاب هذا النشاط على النطاق العالمي والإقليمي والداخلي في الخليج، ولكنها تواجه أيضاً انخفاضاً حاداً في إيراداتها النفطية بشكل خاص، أولاً بسبب الخلاف الذي تفاقم سابقاً داخل أوبك+ حول حصص الإنتاج وثم بالطبع بسبب الإنخفاض الحاد في الطلب العالمي على النفط.

والعالم اليوم غارق بالنفط، حيث قاربت مستودعات التخزين حدودها القصوى وحيث تقف ناقلات النفط بالمئات كمستودعات للتخزين في البحار، وبعد ارتفاعه بشكل محدود في الأسبوع الماضي عاد سعر نفط برنت القياسي إلى الإنخفاض في بداية الأسبوع الأخير من شهر نيسان/أبريل الماضي إلى ما دون 20 دولاراً للبرميل والنفط الأميركي أيضاً إلى ما دون 13 دولاراً للبرميل. وبتقدير مبسط وقبل أخذ التخفيض الأخير في الإنتاج الذي قررته دول أوبك، فإن هذا يعني تراجعاً في الإيرادات النفطية للدول المنتجة، بما لا يقل عن 68-70 في المئة.

كيف يمكن التعامل مع ما يجري في سوق النفط؟

 

والسؤال اليوم وبعد أن بدأت دول الخليج بتخفيف تدابير العزل والعودة التدريجية إلى العمل، هو كيف سيمكن التعامل مع ما حدث في سوق النفط ومع كل تداعيات أزمة كورونا المستمرة على الاقتصاد الخليجي. والواقع هو أن هذا التعامل المطلوب لا بدّ أن يتمحور حول الإستراتيجية المالية الممكنة والناجعة للتعامل مع الإنخفاض الحاد المتوقع في الإيرادات النفطية وضرورات وأوليات معالجة الوضع الإقتصادي العام والمحافظة على حيوية القطاع الخاص والسير قدماً في تنفيذ المشاريع العامة الضرورية والمحفزة، ويرتبط كل ذلك طبعاً بالسياسات والإجراءات النقدية المساندة.

لقد كان لدى دول الخليج في مرحلة سابقة القدرة على تنمية وتطوير وتنويع اقتصاداتها وتحفيز دور القطاع الخاص فيها والقدرة أيضاً في موازاة ذلك على بناء احتياطات مالية كبيرة، وكل ذلك بسبب الإرتفاع الكبير في سعر النفط واستقراره لسنوات على مستويات مرتفعة نسبياً، لكن مع إنقضاء ذلك العصر الذهبي، مرحلياً على الأقل، فإن مرتكزات المرحلة الآن هي الإحتياطات المالية والقدرة على الإستدانة، إضافة إلى كل ما يساعد من سياسات وإجراءات مالية ونقدية لدفع القطاع الخاص على القيام بدور أكبر في إحياء النشاط الإقتصادي حيث ما هو بحاجة لذلك.

والمهم في كل ذلك، أن هناك اليوم تفاوتاً واضحاً في القدرات المالية المتوفرة والضرورية لإستراتيجية المرحلة. ففي ما يخص الاحتياطات المالية أولاً، فإن التقديرات الأخيرة تشير إلى أنه كان لدى دول الخليج مجتمعة ما لا يقل عن تريليوني دولار في نهاية العام 2019 مستثمر الجزء الأكبر منها في الأسواق المالية العالمية والأصول العالمية المتعددة.

والمملكة العربية السعودية تستأثر بالجزء الأكبر من هذه الاحتياطات تليها الكويت وقطر والإمارات، أما البحرين وسلطنة عُمان فإن إحتياطهما يعتبر محدوداً. وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن هذا الإحتياط الإجمالي بلغ مستواه الأخير المقدر في نهاية 2019 بعد إستنفاد ما لا يقل عن 500 مليار دولار منه في السنوات الخمس الماضية، كما كانت هناك تقديرات في نهاية 2019 بأن السعودية قد تضطر إلى سحب نحو 300 مليار دولار من إحتياطها هذه السنة لسدّ العجز المتوقع في ميزانيتها العامة، ويضاف إلى ذلك أن الإنخفاض الكبير في الاسواق المالية العالمية أخيراً كان له أثر أيضاً في تخفيض قيمة الأصول المستثمرة بها في هذا الإحتياط الإجمالي.

بمعنى آخر إذاً، فعلى الرغم من أن الاحتياطات المالية المتوفرة لدى دول الخليج قد تشكل ملاذاً ومصدراً لتمويل الإنفاق العام المطلوب وسدّ الفجوة المتوقعة في الموازنات الخليجية ولو جزئياً، فإنها لن تكون كافية لذلك ولن يكون هناك بدّ من إستعمالها بحذر في الاستراتيجية المالية المطلوبة مخافة إستنفادها.

العنصر الثاني الذي يمكن إعتماده لتمويل استراتيجية الدعم والإنعاش الضرورية هو الإستدانة خارجياً ومحلياً مع التنبه إلى حسن إدارة الدين العام الذي سيتراكم نتيجة لذلك، والإستدانة في هذه المرحلة أمر ضروري جداً لتجنب استنفاد كبير في الاحتياطات خصوصاً في ضوء توقعات وتقديرات جديدة بأن دول الخليج ستحتاج إلى تمويل إضافي يفوق 200 مليار دولار في المرحلة المقبلة.

 

 

           المصدر: "أولاً- الاقتصاد والأعمال"

 

 

إقبال على إصدار السندات

والإقبال على إصدارات السندات الخليجية قوي حالياً، حيث قامت السعودية وقطر والإمارات في مرحلة أولى عن شهر نيسان/أبريل بإصدار سندات بلغت قيمتها الإجمالية 24 مليار دولار وكان الطلب عليها قوياً حيث بلغ 140 ملياراً. وبحسب بنك سيتي غروب، فإن مجموع الإصدارات السيادية الأخيرة لدول الخليج بلغت بذلك نحو 47 مليار دولار، لكن ذلك لا يشمل البحرين وسلطنة عُمان على الرغم من أنهما بحاجة إلى تمويل بنحو 5.5 مليارات دولار هذه السنة بحسب مجموعة غولدمان ساكس، والسبب أنه يبدو أن الإصدارات السيادية لهاتين الدولتين غير مرغوب فيها في الأسواق الدولية نظراً إلى وضع ماليتهما العامة حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أن العجز في ميزانيتهما سيفوق 15 في المئة من الناتج المحلي هذه السنة، علماً أن البحرين تستفيد من دعم عدد من الدول الخليجية، بما في ذلك السعودية تلقته في العام 2018 بقيمة 10 مليارات دولار.

دول الخليج بين الاستدانة وترشيد الانفاق 

 

يبقى القول وبناء على بعض التوقعات إنه تبعاً إلى الوضع الحالي والمتوقع في سوق النفط، فإن دول الخليج ستحتاج في النهاية إلى استدانة ما لا يقل عن 200 مليار دولار قد يكون جزء منها دين داخلي، علماً أن القطاع المصرفي الخليجي يتمتع برسملة قوية وسيولة كافية للمشاركة بفعالية في الإكتتاب بالإصدارات السيادية لحكومات المنطقة.

العنصر الثالث الأساسي في الاستراتيجية المالية المطلوبة والتي يمكن إعتماده لتأمين إيرادات تقلل من الحاجة إلى الإستدانة هو سياسة بيع أو تخصيص أو تشركة بعض الأصول الجذابة المملوكة من القطاع العام، وتشير بعض المؤسسات المالية الدولية إلى بيع السعودية أقل من 2 في المئة من شركة أرامكو بـ 29.4 مليار دولار كمثال على ما يمكن أن تحققه سياسة كهذه من إيرادات وإلى وجود الكثير من الأصول والمصالح الأخرى الجاذبة للمستثمرين. وسياسة كهذه قد تكون جديدة على نطاق الحكومات الخليجية ولكنها قد تساعد بدورها على تقليل استنزاف الاحتياطات المالية وعلى الاستدانة، وهي قد تكون جاذبة للمملكة العربية السعودية بعد النتائج الجيدة التي حققها بيع المساهمة في شركة أرامكو.

العنصر الرابع في الاستراتيجية هو ترشيد الإنفاق العام ووقف ما هو غير ضروري للمرحلة من أجل التركيز في المقابل على كل ما يساعد في دعم القطاع الخاص. والملاحظ أن الحكومات الخليجية بدأت تعمل ضمن هذا الإطار في الأسابيع الأخيرة، حيث سيتم إلغاء أو تأجيل العديد من المشاريع غير الضرورية في هذه المرحلة وستتخذ إجراءات لخفض الإنفاق الجاري للوزارات والمؤسسات العامة منها بشكل خاص في البحرين، حيث سينخفض الإنفاق بنحو 30 في المئة وفي سلطنة عُمان والسعودية.

 

 

          المصدر: "أولاً- الاقتصاد والأعمال"

 

...ودعم القطاعات الانتاجية

ويبقى العنصر الأخير وربما الأهم في الإستراتيجية المالية للمرحلة والذي تصبّ فيه جميع العناصر الأخرى أعلاه ألا وهو وضع الخطط واتخاذ التدابير والإجراءات لدعم قطاعات الإنتاج والخدمات التي كانت المتضرر الأكبر من أزمة الكورونا والتي ستواجه صعوبة في استعادة نشاطها في ظل أجواء الأزمة أيضاً في سوق النفط. ومن أهم الأمثلة عن البرامج والخطوات المتخذة حتى الآن:

في السعودية تمّ في خطوة أولى تخصيص 50 مليار ريال سعودي (أو نحو 13.3 مليار دولار) لبرنامج دعم للقطاع الخاص يهدف إلى تخفيف الآثار السلبية لأزمة كورونا ودعم رأس المال العامل بما في ذلك إيداع 30 مليار سعودي لدى البنوك لتمكينها من تأجيل الدفعات المستحقة على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.،وقد أتبع ذلك ببرنامج أطلقته مؤسسة النقد العربي السعودي "ساما" لضمان 95 في المئة من التمويل الممنوح إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من خلال برنامج كفالة للتمويل وذلك من أجل تخفيف أثر الإنخفاض في التدفقات النقدية لديها وتعزيز جدارتها الإئتمانية.

في الإمارات العربية المتحدة، وضع المصرف المركزي للإمارات خطة دعم شاملة تصل قيمتها إلى نحو 27 مليار دولار وتهدف إلى دعم الإقتصاد الوطني وحماية المستهلكين والشركات ولكن أيضاً القطاع المصرفي بحيث يتم تحرير نحو 13.6 مليار دولار من رؤوس الأموال الوقائية للمصارف، فيما تقوم البنوك في المقابل بمنح إعفاءات من تسديد ديونها لمدة ستة أشهر.

في الكويت، جرى اعتماد مقاربة تحفيزية مختلفة عبر طرح قروض ميسرة من المصارف للمتضررين من الفيروس بفائدة لا تتجاوز 2.5 في المئة لمدة 3 سنوات مع تحمّل الدولة نسبة مهمة من الفوائد، وحددت اللجنة العليا للتحفيز الاقتصادية برئاسة محافظ بنك الكويت المركزي محمد يوسف الهاشل ضوابط عدة لاستحقاق القرض من بينها انتظام الشركات بالسداد قبيل حصول الأزمة، ظهور الحاجة للسيولة خلال مرحلة الأزمة، قدرة هذه الشركات على خلق فرص عمل للعمالة الوطنية، مع اشتراط أن توجه هذه الحزم لسداد الالتزامات التشغيلية كالرواتب والايجارات وغيرها، كما إن الدعم الذي تحصل عليه الشركة يجري توجيهه الى الجهات المستفيدة من خلال المصرف.

وكان بنك الكويت المركزي استبق هذه القرارات بمنح المصارف مساحة إقراضية إضافية بنحو 5 مليارات دينار (16.1 مليار دولار) عبر تعديل التعليمات الرقابية وأدوات سياسة التحوط الكلي.  

وفي قطر، تمّ تخصيص بداية ما يوازي 20 مليار دولار لتمويل إجراءات تحفيز ودعم للقطاع الخاص وتشجيع البنوك على تأجيل المستحقات على القروض المصرفية لمدة ستة أشهر وغير ذلك من إجراءات تحفيزية.

وفي سلطنة عُمان، وعلى الرغم من الضغوط التي تواجه موازنة السلطنة، فقد أعلنت الحكومة عن نيتها تخصيص نحو 8 مليارات ريال عُماني لمواجهة تداعيات أزمة كورونا على السلطنة، علماً أنه من المتوقع أن يصل عجز الموازنة هذه السنة إلى 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، وهو إرتفاع حاد بالمقارنة مع العام 2019 عندما بلغ العجز 7 في المئة من الناتج.

ويبقى القول إن جميع ما أعلن عنه حتى الآن من خطوات وإجراءات ضمن الاستراتيجيات المالية والنقدية لمواجهة تحديات المرحلة لم تزل في بدايتها. فالتحديات كبيرة ومعقدة وتضع الكثير من رؤى ومخططات التنمية والتطوير في الخليج على المحك، خصوصاً ما يتعلق مثلاً بقطاعات الخدمات والسياحة والتجارة وبقطاع الطيران الذي تتصاعد خسائره بإستمرار وباتت تقارب 15-20 مليار دولار بحسب آخر التقديرات.