أزمة كورونا وحتمية تغيير نمط الاندماج في الاقتصاد العالمي

  • 2020-04-16
  • 10:57

أزمة كورونا وحتمية تغيير نمط الاندماج في الاقتصاد العالمي

  • د. مغاوري شلبي علي - القاهرة

 

مع مرور الوقت وتفاقم تداعيات أزمة فيروس كورونا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية والدينية وغيرها، يتأكد أن هذه الأزمة كاشفة بكل المقاييس، فهي كاشفة بالنسبة إلى متانة اقتصادات الدول على أكثر من صعيد، وكاشفة لمصداقية وإمكانية الركون إلى الاعتماد المتبادل وتبادل المنافع بين الدول الأعضاء في التكتلات الاقتصادية والأحلاف السياسية، وقدرة الحكومات على إدارة الأزمات والكوارث الكبيرة، والشركات والمصانع على التكيّف مع التباطؤ الاقتصادي وتراجع المبيعات، ولقدرة الأفراد على الصمود أمام الإغلاق الاقتصادي الجزئي أو الإغلاق الشامل، كذلك قدرة الموردين على التعامل مع صعوبة توصيل منتجاتهم الى الأسواق المحلية والدولية على الرغم من وفرتها، وايضاً لقدرة المستهلكين على التعامل مع نقص المعروض من الاحتياجات الاستراتيجية وارتفاع أسعارها، وقدرة الأجهزة الحكومية على حماية هؤلاء المستهلكين في وقت الأزمات. 

فعلى الرغم من تفاوت تأثر اقتصادات الدول، فإن الأزمة وتداعياتها كشفت عن مدى متانة مختلف الاقتصادات ومدى قدرتها على تحمل الصدمات، وهذا ينسحب على الاقتصادات المتقدمة منها والنامية، الزراعية منها والصناعية والخدمية، الاقتصادات المصدرة للنفط والمستوردة له، الاقتصادات المنفتحة والمنغلقة، الاقتصادات التي تتبنى سياسات تجارية انفتاحية وسياسات حمائية، الاقتصادات التي يعتمد النمو فيها على الاستهلاك المحلي والأخرى التي يعتمد النمو فيها على التصدير. لقد كشفت الأزمة أن المشكلة ليست في ارتفاع درجة الاندماج في الاقتصاد العالمي، هذا الاندماج الذي يقاس بالنسبة المئوية لمجموع الصادرات والواردات مقسوماً على الناتج المحلي الإجمالي، ولكن المشكلة تكمن في نمط هذا الاندماج، فمهما ارتفعت نسبة الاندماج في الاقتصاد العالمي والاعتماد على القطاع الخارجي في تحقيق النمو، تبقى المشكلة في نوعية الاندماج وكيفيته وليس في كم الاعتماد على العالم الخارجي.

ففي جانب الصادرات التي تطلبها دول العالم من دولة ما إذا كانت صادرات مهمة واستراتيجية كالمعدات والآلات ومستلزمات الإنتاج والسلع الغذائية والأدوية الاستراتيجية والتكنولوجيا الحديثة، تكون هذه الدولة في موقف مريح خصوصاً في مثل هذه الأزمات، أما إذا كانت الصادرات التي ترسلها هذه الدولة إلى العالم من فواكه وخضروات وبترول وألعاب إلكترونية ووسائل ترفيه وأدوات تجميل، تكون الدولة في موقف ضعيف خصوصاً في مثل هذه الأزمات، ناهيك أن معدل التبادل التجاري ليس في صالح هذه الدولة من الأساس، فتأثير الأزمة على من يُصَدر الى العالم: كفيار ومكسرات وفراولة وخيار وكانتلوب وتوت بري، ويستورد: قمح وفول وعدس وأدوية ليس كتأثير الأزمة على شركائه التجاريين الذين يستوردون منه ويصدرون له هذه المنتجات، وإذا طبقنا ذلك على جميع الدول العربية مثلاً يتأكد أن النمط الحالي لاندماجها في الاقتصاد العالمي ليس في صالح الاقتصادات العربية، لأنه يحمل في طياته العديد من المخاطر في الظروف العادية، وأن هذه المخاطر تتضاعف وتتحول إلى كوارث في ظل الأزمات والصدمات الكبيرة في الاقتصاد العالمي.

وعلى جانب التنمية الصناعية رجحت أزمة كورونا الاقتناع الراسخ لدى كثير من راسمي السياسات الصناعية، بأن الثورة الصناعية في مراحلها السابقة للثورة الصناعية الرابعة كانت نتاج لسياسات صناعية محددة، وفي مقدمها السياسات الحمائية للصناعة الوطنية وما يرتبط بها من تكنولوجيا جديدة، بما فيها الحماية الجمركية، ومنع هجرة العمالة الصناعية الماهرة، ولذلك، من المتوقع خلال الفترة المقبلة أن تنتشر السياسات الحمائية في العديد من القطاعات وفي مقدمها القطاع الطبي وما يرتبط به من صناعات وتكنولوجيا ومنتجات ومستلزمات طبية حديثة، وكذلك منع هجرة الكوادر الطبية من أطباء وممرضين وفنيين في ظل قيام دول أخرى بتقديم مغريات لاستقطاب هذه الكوادر للهجرة إليها.

وفي السياق نفسه، ستؤثر أزمة كورونا على مستقبل ظاهرة عولمة الإنتاج وانتشار سلاسل القيمة والتوريد العالمية، وذلك لأن هذه الأزمة أثرت بشكل مباشر على العاملين الأساسيين لعولمة الإنتاج ولنشوء سلاسل القيمة العالمية، وهما: وسائل النقل والشحن وحرية التجارة، وتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث ضربت الأزمة سهولة وفاعلية وسائل النقل والشحن حول العالم، وضربت حرية التجارة خصوصاً تجارة المستلزمات الطبية والسلع الغذائية الاستراتيجية مثل الحبوب، وهو ما سوف يعطّل مسيرة عولمة الإنتاج وربط الصناعات الوطنية مع سلاسل القيمة العالمية، وذلك على الرغم من حدوث المزيد من التطور الهائل في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات خلال السنوات المقبلة.

كما إن أزمة كورونا ستحدث تحولاً في سياسات تعميق الصناعة القائمة على استراتيجية التكامل في التجارة العالمية، خصوصاً السياسة التي تعتمد التركيز على تحقيق التميز في إنتاج جزء معين من المنتج الصناعي النهائي، كونه أسهل من استهداف تحقيق ميزة نسبية وتنافسية في إنتاج كامل المنتج، وسياسة ربط الصناعات الوطنية بسلاسل العرض العالمي لتكون جزءاً منها، كونه أسهل من استهداف بناء سلسلة عرض خاصة لهذه الصناعات، وذلك لأن أزمة كورونا كشفت عن مخاطر هذه السياسات، فقد يكون الوصول إلى ربط الصناعات الوطنية بسلاسل القيمة العالمية أمراً سهلاً، ولكن ستبقى الصعوبة والتحدي الحقيقي يكمن في احتلال مكان متميز في هذه السلاسل، وألا ينحصر دور الصناعات الوطنية في مجالات هامشية، والأصعب هو النجاح في تجنب انهيار هذه السلاسل التي سقطت كقطع الدومينو بسبب أزمة كورونا. 

وعلى الرغم من ترويج الاقتصاديين والسياسيين لأهمية التكتلات الاقتصادية والأحلاف السياسية، وإمكانية الاعتماد المتبادل وتبادل المنافع بين الدول الأعضاء في هذه التكتلات والأحلاف، أكدت أزمة كورونا على أنه الى جانب أن المغانم والمغارم غالباً لا تتوزع بالتساوي في هذه التكتلات، فقد يتوجب عليك أن تواجه النيران التي تلتهم بيتك بمفردك مهما كان دورك في بناء بيت العائلة الكبيرة، لأن الآخرين مشغولين في إطفاء النيران في بيوتهم، فكل من إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا تواجه مصيرها منفردة رغم كل ما قدمته للأعضاء الآخرين خلال عمر الاتحاد، وقد غاب ما يعرف باسم Single European Act، وفشلت الدول الأعضاء في الاتفاق على رؤية واستراتيجية موحدة لمواجهة هذه الأزمة، ولذلك قد تكون هذه الأزمة سبباً في فك عرى الاتحاد الأوروبي، الذي كان ملهماً لكثير من التكتلات حول العالم، وقد تؤدي الى المزيد من التباطؤ والتلكؤ في مسيرة غيره من التكتلات ومنها التكتل بين البلدان العربية، ذلك أن الأمر في النهاية قد لا يستحق من الدول اتخاذ بعض القرارات المؤلمة التي في مقدمها التنازل عن العملة الوطنية لصالح العملة الموحدة للتكتل.

وخلاصة القول هو أن أزمة فيروس كورونا كشفت عن حاجة بلادنا الملحة إلى إعادة النظر في نمط اندماجها في الاقتصاد العالمي، وضرورة سرعة التحرك بعد انتهاء الأزمة لاستخدام السياسات التجارية لتغيير النمط الحالي لهذا الاندماج، ليكون العالم أكثر حاجة لبلادنا من حاجة بلادنا للعالم سواء في الظروف العادية أو في ظروف الأزمات، مع العلم أن ما نقصده هنا ليست الحاجة من حيث الكم ولكن الحاجة من حيث الكيف، ففي ظل أزمة كورونا من الجنون أن تقارن حاجة العالم لآلاف الأطنان من صادرات بلدك من البطاطس والفراولة والنفط بحاجة بلدك لاستيراد بعض أجهزة التنفس الصناعي.