حرب أسعار النفط تؤسس لمرحلة جديدة في أسواق الطاقة

  • 2020-03-26
  • 18:47

حرب أسعار النفط تؤسس لمرحلة جديدة في أسواق الطاقة

  • خاص - "أوّلاً-الاقتصاد والأعمال"

حرب الأسعار التي اشتعلت بين كبار منتجي النفط، قد تكون مفاجئة في توقيتها، ولكن ليس في حتمية نشوبها. ورغم الأضرار التي ستلحقها بالدول المنتجة، فهي قد توسس لمرحلة جديدة في أسواق الطاقة العالمية وفي طبيعة العلاقات بين الدول المنتجة وبينها وبين الدول المستهلكة، ويرجح المراقبون ان تكون حرباً "خاطفة" تتنهي مع عودة عجلة الاقتصاد العالمي للدوران بعد احتواء "جائحة كورنا". ويبدو أن الدول الثلاث الرئيسية المعنية ترى في هذه الحرب فرصة لتحقيق مكاسب آنية او استراتيجية، وإن كانت المملكة العربية السعودية تنفرد باعتبارها فرصة لتصحيح خلل تاريخي يتمثل باضطرارها إلى لعب دور "المنتج المرن" لحماية إتفاقات تقاسم حصص الإنتاج بين دول الأوبك ولاحقاً "أوبك +" بما يحفظ إستقرار الأسواق والأسعار.

كيف تنظر الدول الرئيسية المنتجة لمجريات هذه الحرب، وكيف بات انهيار سعر النفط نقطة تتقاطع عندها مصالحها؟

قبل الشرح، ولتوضيح سريالية الصورة، نبدأ من حقيقة معروفة للجميع وهي وجود فائض في السوق منذ العام 2014 ، وتمت السيطرة عليه نسبياً من خلال (اتفاق أوبك +) في نهاية العام 2016، الذي قضى بخفض الإنتاج بمعدل 1.8 مليون برميل يومياً (1.2 مليون برميل منها تتحملها دول الأوبك)، ونجح الاتفاق بمضاعفة الأسعار لتستقر عند حدود 70 - 80 دولاراً لأكثر من عامين، وكان الجميع سعيداً بذلك حتى أميركا التي تكن عداء تاريخياً لأي تكتل أو اتفاق بين المنتجين. والغريب ان هذا الفائض كان واضحاً أنه مرشح لزيادة كبيرة في ظل انتشار فيروس "كورونا" ودخول العالم في مرحلة ركود، ما يعني انه كان من المفترض ان يتم تثبيت بل توسيع اتفاق (أوبك +) وليس إلغاؤه.

إذاً، لماذا تمّ إلغاء اتفاق (أوبك +)، وكيف يحقق انهيار أسعار النفط مصالح المنتجين؟! 

لنحاول الشرح إنطلاقاً من الأهداف التي رسمتها كل دولة وقدرتها على تحقيقها:

 أهداف أميركا: الانتخابات وبناء المخزون 

يحقق انخفاض الأسعار هدفاً عزيزاً على قلوب الأميركيين وعلى قلب الرئيس دونالد ترامب في موسم الانتخابات، وهو تخفيض أسعار الوقود للمستهلكين. فانخفاض سعر البرميل بمقدار 10 دولارات يعني انخفاض سعر غالون الوقود بنحو 25 في المئة، كما يسمح تخفيض السعر لأميركا بإعادة بناء مخزونها الإستراتيجي من النفط "على رخيص". وقد أمر الرئيس ترامب ببدء إعادة بناء هذا المخزون فوراً، وسارعت وزارة الطاقة للاعلان أنها ستشتري 77 مليون برميل من النفط، ويقدر ان تعبئة الخزانات تستوعب نحو 685 ألف برميل يومياً، وتوقعت شركة "فيتول لتجارة النفط" أن تستغرق عملية إعادة بناء المخزون في أميركا وبقية دول العام نحو شهرين. 

يضاف إلى كل ذلك سبب بالغ الأهمية وهو أن تدهور الاسعار يساهم بشكل جدي في التخفيف من حدة تداعيات الركود الاقتصادي في أميركا والعالم، والذي بات أشبه بكارثة إقتصادية في ظل تفشي "جائحة كورونا". 

هل تنتصر ؟

مقابل تلك المكاسب، فإن انخفاض اسعار النفط يلحق ضرراً بالغاً بمنتجي النفط الصخري في أميركا، وقد يواجهون إذا طالت فترة تراجع الأسعار تهديداً جدياً بالخروج من السوق، نظراً الى ارتفاع تكلفة انتاج النفط الصخري والتي تقارب 35 دولاراً للبرميل ولذلك، فمن المرجح أن تترك الولايات المتحدة الأمور تأخذ مجراها، طالما أنها تستطيع تحمّل الخسائر على أن "تتدخل في الوقت المناسب"، كما أعلن الرئيس ترامب في مؤتمر صحفي، والمرجح أن يأخذ تدخلها شكل ممارسة الضغوط على السعودية وعلى روسيا لتخفيض الانتاج، كما توجد لدى الإدارة الأميركية أسلحة إحتياطية قد تلجاً لاستخدامها، مثل فرض رسوم جمركية على واردات النفط والغاز مع التضحية برفع أسعار المحروقات، أو تقديم دعم مباشر لصناعة النفط والغاز المحلية، وهو الخيار المفضل لدى ترامب، لأنه يحقق حماية هذه الصناعة من دون رفع أسعار المحروقات، فيكسب أصوات المنتجين والمستهلكين.

أهداف السعودية: حماية أسواقها وضمان تسويق نفطها

يحقق تخفيض السعر هدفاً عزيزاً على قلب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو وضع حد نهائي للدور الذي فرض تاريخياً على المملكة والمعروف بـ "المنتج المرن" حيث تقوم المملكة بتخفيض إنتاجها بأكثر مما تنص عليه إتفاقات تقاسم الانتاج بين دول الأوبك ولاحقا ًبين دول (أوبك +) لحماية هذه الإتفاقات ولتغطية عدم إلتزام الدول الأخرى بها، بل على العكس كانت هذه الدول تستغل تخفيض الانتاج السعودي لتنتج بأقصى طاقاتها تقريباً، ويتضح ذلك من مجريات المباحثات التي جرت قبل انهيار اتفاق (أوبك +)، فمبجرد رفض روسيا عرض السعودية تخفيض الانتاج بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً للحفاظ على توازن السوق، جاء الرد سريعاً وصاعقاً بإعلان إلغاء الاتفاق والإيعاز إلى شركة أرامكو بزيادة انتاجها إلى 13 مليون برميل يومياً، ومن ثم إلى 13.5 م/ب/ي، واستتباع ذلك بتخفيض الأسعار، مع الإعلان عن بدء ضخ النفط بأقصى طاقة اعتباراً من أول أبريل.

والرسالة واضحة لمن يريد القراءة وهي أن "زمن المنتج المرن" انتهى، وأن هناك قواعد جديدة في التعامل مع السعودية. 

ولفهم الدوافع السعودية بشكل أدق، تجدر الإشارة إلى مسألة بالغة الأهمية، وهي أن استمرار ارتفاع الأسعار، يشجع الشركات والدول على التوسع في عمليات الاستشكاف والتنقيب والتطوير لزيادة طاقاتها الانتاجية، وهو الأمر الذي يقلّص مستقبلاً قدرة السعودية التي تمتلك أعلى طاقة إنتاجية على الإطلاق، على الاستفادة من ارتفاع الطلب حين يحصل. يضاف إلى ذلك، أن السعودية تأخذ في الاعتبار تأثير العودة المرتقبة لنفط كل من فنزويلا، ليبيا، إيران والعراق على المعروض في سوق النفط، وهي عودة تلعب أميركا وروسيا دوراً أساسياً في تقرير  ان تكون "عاجلة أو آجلة".

هل تنجح بتحقيق أهدافها ؟ 

تؤدي حرب الأسعار إلى تحميل السعودية خسائر مالية كبيرة ستؤثر سلباً على تمويل خططها الطموحة لتنويع الاقتصاد في إطار رؤية 2030، كما تؤدي إلى مفاقمة عجز الموازنة خصوصاً ان سعر التعادل المعتمد في الموازنة هو في حدود 75 دولاراً للبرميل. 

ولكن في المقابل، يبدو واضحاً ان المملكة قادرة على الصمود وتحمّل هذه الخسائر بل تعويض جزء كبير منها، فهي الدولة الوحيدة التي في إمكانها زيادة انتاجها بحيث تعوض قيمة الزيادة قسماً كبيراً من الخسائر الناجمة عن تراجع السعر. ويجب ان لا ننسى أن السعودية تمكنت خلال أزمة 2014 من استيعاب تراجع السعر من نحو 115 دولاراً للبرميل إلى 27 دولاراً، وكذلك في أزمة 2008 حين هوت الأسعار من 147 إلى 40 دولاراً للبرميل.

يبدو أن احتفال منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" بالذكرى الستين لتأسيسها أواخر العام الحالي، قد لا يمر على خير. فهناك تساؤلات جدية حول فعالية المنظمة وجدوى استمرارها، ويرجع ذلك إلى سببين:
 الأول هو الفشل المتكرر منذ ثمانينات القرن الماضي، في احترام الدول الأعضاء لاتفاقيات تقاسم حصص الانتاج لضمان توازن العرض والطلب واستقرار الأسوق والأسعار. وانسحب هذا الفشل لاحقاً على ما يعرف بدول "أوبك +".
السبب الثاني، يتعلق بالتحولات الجذرية في سوق الطاقة العالمية، وأبرزها أنها لم تعد سوق منتجين بل باتت سوق مستهلكين. يضاف إلى ذلك الاتجاه العام لتراجع استهلاك النفط لصالح الطاقات البديلة، مقابل زيادات كبيرة في الطاقات الانتاجية من النفط والغاز.
ولذلك، لن يكون مستغرباً ان نشهد مستقبلاً قيام تفاهمات بل تحالفات بين المنتجين والمستلكين. ويجب التوقف ملياً عند خبر عزم الولايات المتحدة إرسال مبعوث خاص للطاقة ليقيم في السعودية لأشهر عدة بهدف تفعيل المباحثات المتعلقة بتحقيق الاستقرار في أسواق النفط. والتوقف كذلك عند تصريح وزير الطاقة الأميركي بأن واشنطن تعتبر إن "إقامة تحالف نفطي مع السعودية بمثابة أحد الخيارات المطروحة". ولن يكون مستغرباً ان نرى مستقبلاً مبعوثاً صينياً للطاقة في الرياض أو أبوظبي، ومبعوثاً أوروبياً في موسكو.
إن التحدي الحقيقي الذي تواجهه الدول المنتجة هو بيع انتاجها وبالحد الأقصى الممكن، فهي تدرك جيداً ان عصر النفط لن يستمر طويلاً، والسبب ليس نضوبه بل نضوب أسواق الاستهلاك. ولنتذكر المقولة الشهيرة للخبير الدولي الإسكندارني المولد روبرت مابرو: "العصر الحجري انتهى، ليس بسبب نضوب الحجارة ".

 

أهداف روسيا: ضرب النفط الصخري الأميركي

يسهم تخفيض الأسعار بتحقيق الهدف العزيز جداً على قلب الرئيس فلاديمير بوتين وهو إخراج النفط الصخري الأميركي من المعادلة، وتوجيه ضربة قوية لقدرة صادرات النفط والغاز الأميركية على منافسة النفط والغاز الروسي في سوق الطاقة الأوروبية التي يعتبرها "عقر داره". 

لكنه في الوقت نفسه يلحق ضرراً كبيراً بالموارد المالية الروسية ويخلق حرب أسعار مع المملكة العربية السعودية، ما يؤدي إلى الإضرار بالعلاقات المتنامية بين البلدين والتي بذل الرئيس بوتين جهوداً مضنية لتعزيزها ورعايتها.

هل لديها القدرة؟ 

تبدو روسيا قادرة عل تحمل سعر منخفض للنفط، لأن إيرادات النفط والغاز لا تشكل أكثر من 40 في المئة من إيرادات الموازنة، كما إن موازنة العام 2020 بنيت على أساس سعر تعادل للنفط في حدود 45 دولاراً للبرميل، يضاف إلى ذلك، امتلاكها لاحتياطات ضخمة من الأصول الأجنبية تقدر بنحو  600 مليار دولار.

ولكنها في المقابل فهي الأقل قدرة على تحقيق أهدافها بتوجيه ضربة قاصمة للنفط الصخري، وتقليص الصادرات الأميركية إلى أوروبا. 

أما بالنسبة الى الوضع المريح الذي كانت تنعم به بالنسبة الى صادراتها من النفط والغاز في ظل اتفاقية (أوبك +)، فيبدو أنه قد انتهى، وستتم الأمور مستقبلاً بخاصة مع السعودية على قاعدة "تقاسم الغنم والغرم"، وقد ينسحب ذلك على علاقتها السياسية والاقتصادية مع الرياض وربما بقية دول الخليج، إذ ترى هذه الدول أن موسكو لا تستطيع أن تبدي عدم ارتياحها لعدم تحقق توقعاتها بأن تقوم الرياض تحديداً بضخ مليارات الدولارات من الاستثمارات في الاقتصاد الروسي وأن تشتري السلاح من روسيا، وأن تدعم سياساتها في سوريا، في حين تواصل موسكو تقديم الدعم الكامل لإيران وتعزيز علاقتها مع تركيا. 

قاع السعر 

جرت العادة ان يحفز انخفاض السعر شهية الاستهلاك، ولكن في ظل تداعيات "كورونا" واستمرار تدفق الإمدادات، يبدو أنه ليس هناك قاع لتراجع السعر، فبعض شركات السمسرة وبيوت الخبرة تتوقع ان يواصل رحلة التراجع، ولا تستبعد جيسون غامبل من شركة جيفزيز مثلاً أن يصل السعر إلى 10 دولارات أو ربما أقل، إذا أصر أطراف الحرب على مواصلة القتال.

ولما كان أحد أهم العوامل المحددة لمسار الأسعار هو حجم الطلب والاستهلاك، فإن الصورة تبدو ضبابية إلى حدّ بعيد في ظل التداعيات غير المعروفة لتدابير احتواء "كورونا"، ولكن المؤكد ان التراجع لن يقل عن 10 ملايين ب/ي من أصل الاستهلاك العالمي البالغ 100 مليون برميل، وهو رقم مرشح للزيادة. وتوقعت ستاندرد تشارترد ان يتراجع متوسط الطلب في 2020 بواقع 3.4 م/ب/ي، مسجلاً رقماً قياسياً بعد الهبوط التاريخي في العام 1980 والبالغ 2.71 م/ب/ي.

ونقلت رويتز عن مسؤولين في شركات سمسرة في لندن أن موجة تراجع الطلب العاتية، تعادل خمسة أضعاف إمدادات النفط في الربع الثاني وهذا الوضع سيصيب منتجي النفط خاصة المرتفع التكلفة بألم شديد وأن يؤدي إلى تعالي الصراخ...

من يصرخ أولاً ؟

من المرجح أن يعلو صراخ الدول المنتجة كافة من داخل أوبك وخارجها، خصوصاً الدول ذات الإنتاج المرتفع التكلفة والمعتمدة بشكل كبير على إيراداتها النفطية لتمويل ميزانياتها العامة، وستواجه هذه الدول مشكلة كبيرة في تمويل عجز ميزانياتها، خصوصاً ان المعدل الوسطي لسعر التعادل المعتمد لبرميل النفط في دول الأوبك، هو في حدود 95 دولاراً، ويتراوح ما بين 83 دولاراً في الكويت، يرتفع إلى 120 دولاراً في العراق ليصل إلى أكثر من 150 دولاراً في إيران ونيجريا.

 أما الأعلى صراخاً فستكون الشركات النفطية العالمية التي وصف تحليل لشركة "ريستاد إنرجي" تداعيات هذه الحرب عليها بـ " "تسونامي نفطي سيغير وجه القطاع لسنوات طويلة"، حيث سيكون همها الوحيد هو حماية رؤوس أموالها وتجنّب شرور التعثر المالي بل الإفلاس. ولذلك، باشرت هذه الشركات فوراً بإجراء تخفيضات كبيرة في النفقات وبخاصة النفقات الاستثمارية، حيث أعلنت كبريات الشركات مثل إكسون وتوتال وإيني عن إلغاء أو تأجيل العديد من المشاريع. وذكر تقرير لـ "سيتي بنك" أن "كل الشركات تلغي عقوداً الآن وأن نحو 50 في المئة من مشاريع الاستكشاف والتطوير في البر والبحر تمّ تأجيلها".

دول شرق المتوسط: "حلم" دخول نادي الدول النفطية مهدد 

المرتبة الثالثة في شدة الصراخ ستكون من نصيب الدول التي "تحلم" بدخول نادي الدول النفطية، مثل دول شرق المتوسط (لبنان، قبرص، وإسرائيل) التي يرجح أن مشاريع الاستكشاف والتطوير فيها ستكون في مقدم المشاريع المؤجلة من قبل الشركات. 

اللاعبون الكبار لن يصرخوا

بالنسبة الى اللاعبين الثلاثة الكبار، فالصراخ ليس وارداً، فكل واحد منهم "حاسبها صح" ويعرف متى تبدأ الحرب ومتى يدخل فيها، ومتى وكيف تنتهي، وقد حدد كل واحد منهم خسائره سلفاً. والمرجح أن تنتهي هذه الحرب  كما انتهت الحروب السابقة بالتوصل إلى تسويات بحيث يخرج الجميع رابحين وخاسرين، كل حسب أهدافه وفعالية أسلحته وقدرته على الصمود.