تحوّل دول الخليج إلى "الدائرية" يوفّر لها 138 مليار دولار

  • 2020-03-05
  • 11:40

تحوّل دول الخليج إلى "الدائرية" يوفّر لها 138 مليار دولار

  • حنين سلّوم

شهد العالم أخيراً، من جرّاء التحوّل المناخي حرائق لا مثيل لها في غابات الأمازون وأستراليا، أودت بحياة الملايين من الكائنات الحيّة، وتسببت بخسائر اقتصاديّة مكلفة على الدول المتضرّرة. من هنا أصبحت الدول ومنها العربية، تعي الضرورة الاقتصاديّة للتحول إلى الدائريّة (الاقتصاد الدائري)، فضلاً عن الفوائد التي من المتوقع تحقيقها من خلال اللجوء إلى هذا النوع من الاقتصادات.

الاتحاد الأوروبي في الطليعة

في دراسة أجرتها Ellen Macarthur Foundation ونشرت سنة 2013، إن تنفيذ تدابير مثل التخلص من الهدر، وإعادة استخدام المنتجات واعتماد التصميم الإيكولوجي يساهم في خفض إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة (غازات الاحتباس الحراري) بنسبة سنويّة تتراوح بين 2 إلى 4 في المئة.

ولا تقتصر أهميّة الاقتصاد الدائري على البيئة فقط، بل تمتد لتشمل الاقتصاد أيضاً. فمن المتوقع أن يؤدّي تطبيق الاقتصاد الدائري إلى تعزيز إنتاجية الموارد في أوروبا بنسبة 03 في المئة بحلول العام 2030، وفقاً لدراسة نشرتها ماكينزي سنة 2015، ما سيحقق وفورات في تكاليف الموارد بنحو0.67 تريليون دولار سنويّا. ذلك فضلاً عن فوائد اقتصاديّة أخرى ذات صلة تتوزّع بين وفورات في إنفاق الأسر والحكومات (cash-out costs)  على التّنقل والغذاء والسكن والمكاتب تصل إلى نحو 0.78 تريليون دولار ووفورات بقيمة 0.56 تريليون على العوامل الخارجيّة  (externalities) التي تشمل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، الازدحام المروري، التلوث، وغيرها. ,من المتوقّع أيضاً أن تصل الوفورات الاقتصاديّة إلى 2 ترليون دولار سنويًّا بحلول العام 2030 وهو ما يشكّل نحو 1 في المئة من الناتج الإجمالي المحلّي التراكمي للاتحاد الأوروبي لعشر سنوات. ومن المنتظر أن توفّر الدائريّة أكثر من مليوني وظيفة بحلول العام 2030.

وبحسب خبراء أوروبيين فإنه باستطاعة الاتحاد الأوروبي تولّي القيادة الدوليّة في تطبيق الدائريّة وذلك لأسباب عدة أبرزها أنّ أعضاء الاتحاد يتمتّعون في سجل حافل من التعاون عبر الحدود كذلك لديهم قوانين لتنظيم هذه العلاقات. وقد باشروا في تنفيذ التفكير الدائري في العديد من خطط العمل. وقد أشار المشاركون في المنتدى العالمي للاقتصاد الدائري في نسخته الثالثة سنة 2019 أنّ عدد مستهلكي الاتحاد الأوروبي يبلغ 500 مليون كما أنّه يستطيع التأثير على شركائه التجاريين العالميين لتبنّي أنشطة الاقتصاد الدائري. على سبيل المثال، ستجبر لوائح الأغذية المستدامة الدول الأخرى على استخدام الزراعة المستدامة إذا كانت ترغب في البيع للمستهلكين الأوروبيين.

وكانت المفوضية الأوروبية قد اعتمدت الاقتصاد الدائري منذ العام 2015 كما يدعم بنك الاستثمار الأوروبي تمويل الحلول الدائرية بينما بدأ الاتحاد الأوروبي في تنفيذ برامج داخلية ودولية طموحة، مثل مذكرة حول التعاون الدائري مع الصين.

 

الدّول الرائدة في التحول إلى الدائريّة عالميًّا

تحتل ألمانيا مركز الصدارة في العديد من مؤشّرات الاقتصاد الدائري، نظراً إلى موقفها الإستباقي المستمر في التفكير في الاستدامة وإعادة التدوير. فلقد استطاعت ألمانيا إعادة استخدام 95 في المئة من نفاياتها المنتجة (60 في المئة منها عبر إعادة التدوير و35 في المئة في منشآت لتحويل النفايات إلى طاقة) وطمر نسبة الخمسة في المئة المتبقّية. وتطمح إلى حظر الطمر بحلول العام 2030 مع تحقيق معدّل إعادة التدوير بنسبة 75 في المئة لجميع نفايات التغليف والبلاستيك وذلك بحسب World Future Energy Summit.

تلعب الصين أيضاً دوراً مهمًّا في الاقتصاد الدائري فهي منذ حوالي العقدين تحفّز مبادرات جديدة في هذا السياق. وفي حين ركّزت جهودها المبكرة على ثلاث مبادئ، خفض، إعادة استخدام، وإعادة التدوير، (3Rs:Reduce, Reuse, Recycle)، أصبحت منذ العام 2017 تشجع أيضًا على تبني تصميمات وابتكارات صديقة للبيئة في مجال الطاقة المتجددة والتقنيات الرقمية ومنصات تقاسم الأصول.

أمّا هولندا فحدّدت العام 2050 للتحول الكامل إلى الدائريّة في خمسة قطاعات رئيسيّة وهي الكتلة الحيوية (biomass) والغذاء، البلاستيك، الصناعة، البناء، السلع الاستهلاكيّة.

أين العالم العربي من التحول إلى الدائريّة؟

وفقاً لدراسة نشرتها Strategy &، (سابقاً Booz & Company)، تستطيع دول مجلس التعاون الخليجي من خلال التحول إلى الدائريّة توفير 138 مليار دولار أميركي بين عامي 2020 و2030، وهو ما يقارب 1 في المئة من الناتج المحلّي التراكمي في المنطقة خلال هذه الفترة. كذلك باستطاعتها خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 148 مليون طن في الفترة نفسها.

وقد حدّدت الدراسة المجالات الثلاث التي يمكن استهدافها لتحقيق الفوائد المذكورة.  أولها قطاع البناء الذي ينتج 35 إلى 40 في المئة من الهدر (waste) في المنطقة مقارنةً بنحو 25 إلى 30 في المئة في الاتحاد الأوروبي. ذلك أن خفض الهدر في هذا المجال للوصول إلى مستويات الاتحاد الأوروبي يؤدّي إلى فوائد مالية من المتوقع أن تتجاوز 23 مليار دولار بين عامي 2020 و2030. امّا المجال الثاني "نموذج التنقل الدائري" فيمكن أن يحقق فوائد بقيمة 69 مليار دولار، وذلك من خلال مشاركة السيارات واستخدام السيارات الكهربائيّة للحد من الازدحام وحوادث السير واستهلاك الوقود. وأخيراً، المجال المتعلق بخدمات المرافق العامة، فاللجوء إلى هذا الخيار يمكن أن يحدّ من هدر الكهرباء والمياه والغذاء الناجم عن سوء سلوك المستهلكين. لذا فإن معالجة هذا الهدر قد تؤدي إلى إضافة 46 مليار دولار إلى المعادلة. وعلى سبيل المثال فقد أدّى رفع الدعم عن الطاقة في المملكة العربية السعودية إلى خفض هدر الكهرباء من قبل المستهلكين وذلك بهدف خفض فاتورتهم الكهربائيّة.

وعلى صعيد البلدان، حلّت الامارات العربية المتحدة عام 2019 الدولة الأولى عالميًّا الداعمة لبرنامج المنتدى الاقتصادي العالمي "تسريع الاقتصاد الدائري 360" وهو نموذج مبتكر لتنمية الاقتصاد الدائري من خلال استخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت المواد (Internet of Materials IOM) والحلول القائمة على البلوكتشاين. كما أعلنت وزارة التغير المناخي والبيئة في الإمارات، ومجموعة الائتلاف عن توقيعهما تعهّد لتطوير نموذج الاقتصاد الدائري للتصدي لمشكلة التلوث بالنفايات البلاستيكية ومواد التعبئة والتغليف في دولة الإمارات.

أمّا في المملكة العربيّة السعوديّة، فقد شكّل تحسين المستويات الوطنية لإعادة تدوير النفايات وإعادة استخدامها، أحد أبرز بنود جدول أعمال المملكة التي عرضت في المنتدى السياسي الرفيع المستوى عام 2018، أهداف التنمية المستدامة والرؤية 2030 التي تضمّنت مبادرات ومشاريع عدّة.  وعلى صعيد الشركات القيادية، أكّد أعضاء شركة سابك عزمهم على تحقيق اقتصاد دائري داخل الشركة. وخلال العام 2019 أعلنت سابك عن توقيع مذكرة تفاهم مع خبراء إعادة التدوير الكيميائي Plastic Energy لتزويد نفايات البلاستيك المعاد تدويره لمرافق الإنتاج في أوروبا. وهذه ليست إلّا واحدة من مشاريع عديدة تطبّقها الشركات والحكومة في المملكة لدعم الاقتصاد الدائري.

وأخيراً في مصر، على الرغم من العقبات الاقتصاديّة التي تشهدها الدولة منذ سنوات، فإنها تقوم بجهود لتنمية الدائريّة. فلقد أقامت منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO) شراكة مع مبادرة (Better Cotton Initiative (BCI لتعزيز إنتاج القطن المصري المستدام والخالي من الكائنات المعدلة وراثيًا. تشمل الجهود العملية المقترحة في إطار هذه الشراكة تدريبًا على الاستدامة لمزارعي القطن المصريين، والحصول بشكل أفضل على قروض الأعمال لأغراض اعتماد أساليب إنتاج أكثر استدامة، ومنح معيار BCI لهؤلاء المنتجين الذين يستوفون معاييرهم الصارمة.

تحديّات التحول إلى الاقتصاد الدائري

لتحقيق الفوائد الاقتصاديّة المذكورة، على البلدان أن تبدأ بالتحول من الاقتصاد التقليدي السائد إلى الاقتصاد الدائري وذلك يتطلّب مشاركة والتزام عدّة مجموعات. فعلى صانعي السياسات مثلاً توفير الشروط الإطاريّة اللازمة وتحديد كيفيّة تمكّن المواطنين من ضمان الاستفادة من التغييرات الجارية. أمّا الشركات، فعليها إعادة تصميم سلاسل التوريد (supply chains) من أجل ضمان كفاءة الموارد وتحقيق الاقتصاد الدائري.

وعلى الرغم من ضرورة التحول إلى الدائريّة بشكل سريع إلّا أنّ عوائق عديدة مازالت تعيق المرحلة الانتقاليّة ونذكر منها:

أولاً، الافتقار إلى الأنظمة والقوانين، ذلك أنّ عدم وجود تشريعات وقوانين وأطر تنظيميّة واضحة للتحول إلى الاقتصاد الدائري قد يحبط الشركات والأفراد ويحول دون قيامهم بأخذ المبادرة ليكونوا السباقين في تطبيق الدائريّة.

ثانياً، القيود على الخدمات في التجارة الدوليّة، إذ على الرغم من تشكيل الخدمات حوالي ثلثي الناتج الإجمالي المحلّي العالمي وتوفيرها العدد الأكبر من الوظائف إلّا أنّ التجارة الدوليّة تضع قيوداً على الخدمات وذلك بسبب عدّة عوامل منها نقص الشفافيّة التنظيميّة، وجود سقف للاستثمارات وإعاقة حركة المهنيّين بين البلدان ما يحدّ من امكانيّة الشركات على المنافسة. وبما أنّ الخدمات تلعب دوراً أساسيًّا في الاقتصاد الدائري يجب إعادة النظر في هذه القيود لتحقيق التحول المطلوب.

ثالثاً، عدالة التجارة العالميّة، باعتبار أن تطبيق الدائريّة يتطلب عدالة التجارة الدوليّة وحريّة تنقّل السلع ورأس المال والعمالة بين البلدان لأنّه ما من دولة تستطيع تطوير اقتصاد دائري بشكل مستقل وذلك لأن الدول لا تملك جميع الموارد ولا السوق الاستهلاكيّة لتكون مكتفية ذاتيًّا. وقد توصّلت الولايات المتّحدة في شهر ديسمبر إلى اتفاقيّات تجاريّة مع المكسيك وكندا والصين بعد نزاعات وحرب تجاريّة تلتها أشهر من المفاوضات. إلّا أنّ علامات استفهام عديدة تحوم حول هذه الاتفاقيات من حيث الحريّة والعدالة التجاريّة مع فرض التعريفات من جانب واحد وتحديد حجم التجارة بين البلدان. وبما أنّ التجارة العالميّة العادلة ضرورة للتحول الاقتصادي، هل ستستطيع جميع البلدان ممارسة التجارة بحريّة لتحقيق الدائريّة؟

رابعاً، التكلفة: إنّ التحول إلى الدائريّة يتطلّب ضخ استثمارات لتطوير المنتجات وآليّات الصناعة ولإقامة الأبحاث لإثبات فعاليّة الابتكارات. وقد لا تستطيع جميع الحكومات والشركات الخاصّة تكبّد هذه التكاليف مما قد يشكّل عائقاً. لكن، قد تخفّف الشراكات بين القطاعين العام والخاص من وطأت هذه الضغوطات.

وفي حين بدأت المبادرات للتحول إلى الدائريّة في العديد من البلدان، إلّا أنّها لا تزال خجولة، غير شاملة وتتطلّب جهداً أكبر، مشاركة والتزام عدّة مجموعات أبرزها الجهات الناظمة التي من واجبها توفير الشروط الإطاريّة اللازمة التي تشكّل أساس التحول.  ومع انسحاب الولايات المتحدّة، الدولة ذات الاقتصاد الأضخم عالميًّا، من اتفاق باريس الذي يشكّل الاقتصاد الدائري أحد أبرز أركانه، ماذا سوف يكون مصير الدائريّة وهل سوف تتراجع دول أخرى؟  

 للاطلاع على المقال السابق حول الاقتصاد الدائري: فرصة للاقتصاد والبيئة.