على أبواب عام جديد: لبنان "يفوز" بمفتاح تحديد حجم الخسائر

  • 2021-12-13
  • 10:00

على أبواب عام جديد: لبنان "يفوز" بمفتاح تحديد حجم الخسائر

ماذا خلف الأبواب الموصدة؟

  • علي زين الدين

أمّا وقد جرى انتهاء التوافق الداخلي إلى تقدير حجم الفجوة المالية بنحو 69 مليار دولار تزيد قليلاً او تنخفض، فقد صارت الطريق معبّدة وسالكة نظرياً للانتقال من وضعية المراوحة في المحادثات التقنية والتشاورية إلى التموضع على خط المفاوضات المباشرة بين الفريق الاقتصادي الحكومي وبين إدارة "صندوق النقد الدولي"، بهدف إنضاج اتفاق تعاون وتمويل يرتكز على خطة إنقاذ وإصلاحات هيكلية شاملة من شأنها إعادة لبنان واقتصاده إلى مسار التعافي والتمكين من احتواء الاختلالات الهائلة التي ضربت خبط عشواء في كل مفاصل القطاعات وحشرت نحو 80 في المئة من السكان تحت خط الفقر.  

في الشكل، تبدو حيازة الرقم - المفتاح تقدماً جوهرياً للبدء في فتح الابواب الموصدة التي يتقوقع خلفها وفي زنزاتها الضيقة مقيمون ومغتربون يتذوّقون يومياً مرارات الجوع وضياع جنى الأعمار وحتى القبس من آمال العيش بالحدود الدنيا من الخدمات والحوائج والقليل من الكرامة الانسانية. ذلك ان تقريراً حديثاً للبنك الدولي كشف عن توسّع هائل في حزام الفقر في لبنان خلال العام الحالي، ليضم فئات جديدة تبلغ نحو 2.3 مليون نسمة من المقيمين، ويتوزعون بين 1.5 مليون لبناني و780 الفاً من النازحين السوريين.

يعزّز هذه الفرضية ظاهرياً، أن الحكومة "المعطوبة" بشروط تحول دون انعقادها الدوري والضروري حتى إشعار غير معلوم، تكرر تعهداتها بتسريع إنجاز خطة الإنقاذ المنشودة توطئةً لاستئناف المفاوضات مع إدارة الصندوق منتصف الشهر الاول من العام الجديد، بالتوازي مع ما تبديه هذه الإدارة من اندفاع لمعاونة البلد المنكوب، لدرجة كادت معها أن تجاهر بالاستسلام لحقيقة انسداد الآفاق مع الجماعات الحاكمة التي تتعمّد زرع الألغام وتتقن تفجيرها كلما استشعرت إلحاح المجتمع الدولي على أسبقيّة الإصلاح ومكافحة الفساد.

قرب ختام عام عامر بتعميق الشروخ وبتكثيف النكبات والخيبات والهجرات، وبداية عام حافل باستحقاقات سياسية مفصلية تحت مظلة الانهيارات غير المسبوقة وانكفاء الدولة عن وظائفها ومسؤولياتها، نحاول في موقع "أولاً – الاقتصاد والأعمال" رصد المشهد بأبعاده المختلفة وتسليط الضوء على أبرز المحطات الحيوية.

البعد النقدي

ريثما يتم الافصاح عن جدول توزيع اكلاف الفجوة بين ثلاثي أطراف الدولة والبنك المركزي والقطاع المصرفي، تبقى رؤوس المودعين وعيونهم شاخصة إلى نسب الاقتطاع من الودائع (الهيركات) التي ستلحق بقيود مدخراتهم، بعدما عانوا على مدار أشهر الأزمة من اقتطاعات مؤلمة طالت كل عمليات السحوبات، لتصل نسبة الخسارة إلى نحو 94 في المئة من سحوبات الودائع المحررة بالليرة قياساً بسعر الدولار الساري في الاسواق الموازية، فيما بلغت النسبة عينها نحو 85 في المئة على السحوبات من الودائع المحررة بالعملات الاجنبية، قبل أن يبادر البنك المركزي الى تصحيحها جزئياً لتقارب 69 في المئة.

ومن المؤمل، بحسب ما صرّح به المدير العام لـ"فرست ناشونال بنك" نجيب سمعان لموقع "أوّلاً-الاقتصاد والأعمال"، أن تحظى الودائع الصغيرة والمتوسطة بمظلة استرحام تقيها سيف الاقتطاع، إنما لا تزال مسألة تحديد هوامش هذه الشرائح المعفاة عالقة "قيد الدرس"، وهو الأمر الذي أكده، نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الفريق الاقتصادي المكلّف بإدارة ملف المفاوضات مع ادارة الصندوق سعادة الشامي، مبيّناً أن "توزيع الخسائر على الجهات لا يزال قيد الدرس، ومن المتوقع البت به خلال الأسبوعين المقبلين"، كما إن خطوط خطة التفاوض تقوم على حماية المودعين الصغار أولاً، أما مَن استفاد من المودعين من الفوائد العالية سابقاً فقد يتحملون أكثر بموضوع سد الفجوة الحاصلة".

وبمعزل عن المزيدات الشعبوية والتحليلات العشوائية قبيل أشهر معدودة من استحقاق الانتخابات النيابية، تواصل السلطة النقدية محاولات فتح ثقوب متجاورة في الجدار السميك لتراكم الأزمات والخيبات. فقد كبحت الجرأة على اتخاذ القرار المفصلي بعد المس بالتوظيفات الالزامية للبنوك لدى البنك المركزي والبالغة نحو 13 مليار دولار، شهية الانفاق المتمادي الذي تسبب بتبديد نحو 14 مليار دولار على سياسات دعم عقيمة خلال سنتين متتاليتين، وبالزام من قرارات اتخذتها السلطة التنفيذية على أعلى المستويات، وزادتها بلاء وبلّة بتحميل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مسؤولية "تجويع" اللبنانيين من دون بذل أي جهد لتوصيل هذا الدعم المفرط لهم.

ويظهر العجز عن تمويل البطاقة التمويلية بما يوازي 500 مليون دولار لصالح نحو 500 ألف أسرة من الأشد حاجة للحد الأدنى من التوازن المعيشي، مرارة التفريط بهذه المبالغ الهائلة. ففي حساب سريع تبرز حقيقة مذهلة بأن توجيه نصف هذا المبلغ إلى ضعف المستهدفين، أي مليون أسرة، كان سيكفي لضخ التمويل في بطاقاتهم وبما يوازي مئة دولار شهرياً لكل أسرة لمدة تتعدى 5 سنوات على أقل تقدير. ويؤكد هذه المعادلة أن قرض البنك الدولي الميسّر البالغ نحو 246 مليون دولار سيلبّي التمويل عينه لنحو 170 ألف أسرة لمدة عام كامل.

التدقيق المطلوب

يفترض أن تتضح الصورة العامة لإعادة هيكلة حسابات البنك المركزي بداية وسائر حسابات الدولة ربطاً، مع انتهاء مهلة مفاعيل القانون التشريعي الذي اتاح رفع السرية المصرفية ضمن مهام التدقيق التي باشرتها شركة "الفاريز ومارشال" قبل 12 اسبوعاً في حسابات مصرف لبنان المالية عقب انجاز كامل الترتيبات القانونية والاجرائية ذات الصلة، وهو ما يعدّ تحوّلاً نوعياً في اعتماد معايير دولية موثوقة تتوافق مع المقاربة الموضوعية للأزمتين النقدية والمالية اللتين تعصفان بالبلاد، واستجابة مسبقة لواحد من الشروط الاساسية التي يضعها صندوق النقد الدولي لعقد اتفاقية برنامج تمويل متوسط الأجل مع الدولة اللبنانية.

ومن المؤكد أن البيانات المالية التي يحوزها البنك المركزي تشمل في ما تشمل جزءاً مهماً من حسابات الدولة ومصروفاتها عبر الحساب الجاري الرقم 36 الذي تودع فيه وزارة المالية وتسحب منه، وحسابات مستقلة عائدة لادارات عامة ذات موازنات ملحقة ومؤسسات عامة وبلديات وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية ممن أُجيز لهم قانوناً فتح حسابات جارية مستقلة بهم في مصرف لبنان، فضلاً عن الميزانيات الخاصة بالبنك المركزي ككيان "مستقل ومعنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي".

وبمعزل عن الخلفيات السياسية واستهدافاتها، فإن تبيان الحقائق المحاسبية وتدقيق المصروفات والمداخيل يشكلان منطلقاً قوياً للإصلاح المالي المنشود ولإعادة هيكلة قابلة للتوسع والتعمق إلى كامل ميزانيات الدولة بوزاراتها ومؤسساتها وصناديقها ومجالسها، وهي أيضاً مهمة لا مفرّ منها في سياق السعي الجدّي إلى التحديد الموثّق للفجوة المالية توطئةً لتعيين مسارات الاحتواء والمعالجة بدعم من برنامج الصندوق والمانحين الدوليين.

ويؤكد مسؤول مالي أن إنجاز المهمّة ضمن المهلة المحددة واستخلاص التقرير التقييمي، من شأنه إزالة "لغم" مالي كبير شرّع الأبواب أمام إلقاء اتهامات طالت خصوصاً حاكمية البنك المركزي، وساهمت بتزخيم انهيار اقتصاد البلاد والعملة الوطنية، لكنّه يحذّر من مغبة حصول تسريبات تسيء إلى شرط السرية الموجبة على الكثير من مكونات بنك المعلومات والاحصاءات (الداتا) التي يحوزها البنك المركزي، وبما يشمل تفاصيل البيانات المالية والجهات المرتبطة بالحسابات، وهو ما اقتضى طلب "المركزي" سابقاً تضمين العقد التزام الشركة المعنية بالموجبات كافّة التي تفرضها عليها القوانين ومعايير (General Data Protection Regulation) على البيانات والمعلومات التي تستحصل عليها، منعاً من تكرار واقعة تسريبات سابقة لقائمة معلومات.

البعد المعيشي

يكتسب البعدان الاجتماعي والمعيشي للأزمة أهمية قصوى، ربطاً بتناسب ارتفاع معدّلات الفقر طرداً مع تفاقم نسب التضخّم وتآكل القدرات الشرائية للمداخيل، حيث سجل مؤشر الأسعار للأغذية والمشروبات غير الكحولية، بحسب رصد ادارة الاحصاء المركزي، من كانون الأول/يناير 2018 إلى تشرين الاول/أكتوبر 2021، نسبة 2067  في المئة. وسجل التضخّم في أسعار الملابس والأحذية نسبة 1911 في المئة خلال الفترة ذاتها، وهذان البندان يمثّلان ثقلاً نوعياً كبيراً في موازنات الأسر وإنفاقها، علماً ان الزيادة السنوية للمؤشر العام للأسعار بلغت نسبتها 173.57 في المئة حتى نهاية تشرين الاول/أكتوبر الماضي، لتندفع الحصيلة الرقمية التراكمية إلى نحو 715 في المئة، وهو ما يعزّز الاتجاه الى تقارب المسافة بين مؤشر الغلاء وبين الخسائر التراكمية في القدرات الشرائية للمداخيل، بحيث باتت شبه موازية لتفاقم انهيارات سعر صرف الليرة بمقدار يساوي نحو 17 ضعف ما كانت عليه قبل انفجار الازمات.

وتخشى المؤسسات الدولية التي تتابع عن كثب تفاقم التداعيات المستمرة لتفجر الازمات في لبنان والتي دخلت للتو عامها الثالث على التوالي، من انهيارات قاسية ينتجها التضخم المفرط المندفع أخيراً بقوتي رفع الدعم واستمرار انهيارات سعر صرف الليرة في المنظومتين الاجتماعية والمعيشية، مما قد يفضي إلى تعميم الفوضى والإخلال بالاستقرار الأمني الهش بعد الارتفاع الحاد في مؤشر الفقر فوق حدود 80 في المئة من المقيمين، وهو ما اكدته استطلاعات ميدانية لمنظمة "اليونيسيف"، حيث أظهرت أن 8 من 10 أشخاص يعيشون في فقر، بينهم 34 في المئة يعيشون في حالة فقر مدقع.

وتستمد هذه المخاوف دفعاً قوياً من التدهور المستمر في الاقتصاد الكلي وفي الأوضاع المالية، مما ينذر، بحسب المؤسسات الدولية، بتوقف تقديم الخدمات بشكل أكبر وبتكلفة اجتماعية كارثية ناتجة عن التدهور الطويل الأجل في الصحّة والتعليم وفرص الأجيال القادمة، مما سيدعّم من عملية الارتفاع الحاد في الفقر النقدي والفقر المتعدّد الأبعاد، ولا سيما في ظل الارتفاعات الكبيرة في أسعار الاستهلاك والمحروقات والنقل والادوية والتغذية بالكهرباء من المولدات الخاصة وسواها من متطلبات الحياة اليومية.

 وفي المستجدات التي انضمت الى حلقات الضغوط المعيشية، يشهد لبنان تدهوراً غير مسبوق في النظام الصحي، حيث تعاني المستشفيات من نقص في المحروقات، الأمر الذي يعوّق تعويض الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، ونقص في المواد الأساسية، وإرهاق الطاقم الطبي. وفي الموازاة، طرأت الارتفاعات الكبيرة في أسعار الأدوية بعد إعادة هيكلة الدعم وخفضه الى مستويات متدنية، ما جعل عدداً كبيراً من الأسر غير قادر على تحمّل تكاليف الرعاية الصحية، والأخطر أن نحو 34 في المئة من الأطفال لا يتلقون الرعاية الصحية الاولية التي يحتاجونها.