لبنان-سويسرا: حذار سقوط "الأمن المالي والنقدي"!

  • 2021-01-24
  • 09:00

لبنان-سويسرا: حذار سقوط "الأمن المالي والنقدي"!

  • خاص - "أوّلاً-الاقتصاد والأعمال"

شأن رياض سلامة أن يرد على الاستفسارات الواردة من المدعي العام السويسري عبر السفارة في لبنان، ليحدد ماهية تحويلات مالية تخصه أو ترتبط بشخصه وماهيتها ومبالغها ومواقيتها، طبقاً لسجلات موثقة بين المصدر والمقصد، وهو اختار الإدلاء بما لديه لدى "الأصيل" في موطنه، بعد ان قدم افادته وأجاب على أسئلة "الوكيل" في بيروت.

في المقابل، هي مسؤولية الدولة اللبنانية بكامل سلطاتها وأجهزتها أن تدرأ أي ضرر نجم فعلاً عن هذا التطور المهم أو سيصيب لاحقاً مصرف لبنان المركزي، بوصفه مؤسسة سيادية أولاً، ونظير ما تتولاه تالياً من مهام ومسؤوليات مفصّلية بموجب قانون النقد والتسليف، وخصوصاً مرجعيتها الحصرية في اصدار النقد وادارة السيولة في البلد، وربطاً بصلاحيات سلطاتها الناظمة والرقابية في تنظيم شؤون الجهاز المصرفي والمالي للعمليات المالية، أي ما يخص مجمل الثروات والمدخرات السائلة.

كان يمكن لهذه القضية المثارة، أن تدور ضمن هذه المحددات الموضوعية في أي دولة مستقلة وسيادية، والاحتكام الى الدستور والقوانين المرعية الإجراء يفرض احترام الخصوصية التي تضفي "حساسية عالية" على طبيعة المعاملات المالية عبر الحدود، الخاصة منها والعامة، ومراعاة ضرورات "الكتمان" في حالات ضرر "الاشهار" ومحظوراته. فكيف يكون التصرف الأسلم قانونياً واجرائياً في بلد يعاني انهيارات اقتصادية عاتية ويفتقر الى مظلة دولية حامية ومنكشف أصلاً على أعلى المخاطر النقدية والمالية.

فمن المعلوم، أنه على مدار كل ساعة تتدفق آلاف المراسلات "السرية" التي تستقصي جوانب غامضة أو مثيرة للأسئلة والاستيضاح بين البنوك المركزية وهيئات أسواق المال والبورصات والرقابة والقطاعات المالية حول العالم، والقليل منها ينتقل الى هيئات التحقيق المالية المولجة عموماً بالتحويل الى النيابات العامة المعنية ما يقع تحت اليقين او الشك القوي بوجود جرم مالي، مرفقاً بالذرائع والقرائن، علماً أن منصات التحقق الدولية والأميركية والأوروبية وسواها توثق وبتقنيات ذكية ومتقدمة الشاردة قبل الواردة في قنوات انتقال الأموال، ولها أن تضع "الخط الأحمر" حيث يتوجب ولو بمجرد الاشتباه.

الحاصل في لبنان يخرج تماماً عن هذه المعادلات. فمن التسريب الى الافصاح الذي تولته جهات رسمية وشبه رسمية، بدا صريحاً، ان غاية الحاق الأذى المادي أو المعنوي بشخص الحاكم، بررت تعمد "نشر غسيل" وجود شبهات خارجية حول عمليات تبييض أموال وفساد في البنك المركزي على مشابك الاعلام الدولي والمحلي. وبان واضحاً الخلط بين مسار القانون وموجباته وبين خيارات المحاور والمصالح الفئوية والطموحات، شخصية كانت أم حزبية.

 بايجاز تسلسلي، بدأت الحكاية قبل أيام بخبر "عاجل" لوكالة أنباء دولية ورد فيه: "قال مسؤول حكومي لبناني إن السلطات السويسرية فتحت تحقيقاً في تحويلات مالية منسوبة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وقال المسؤول، الذي طلب عدم نشر اسمه، إن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء كلاهما على علم بهذا الأمر"،  ثم بينت الوكالة ذاتها هوية المسؤول، وزيرة العدل في حكومة تصريف الاعمال ماري كلود نجم، فأوضحت بدورها انها "لم تدلِ بأيّ بيان عن الموضوع. بل كان جواباً رداً على سؤال عمّا إذا وصلها الطلب بشأن تحويلات مالية تخص سلامة، فأجابت عليه كالآتي: تسلّمت طلب تعاون قضائي موجه من السلطات القضائية في سويسرا، وسلّمت الطلب إلى النائب العام التمييزي لإجراء المقتضى".

زاد في "العجلة" وتعميم النشر، نقل الوكالة عن "مكتب النائب العام السويسري أنه طلب من مساعدة قانونية متبادلة من السلطات اللبنانية في ما يتعلق بتحقيق في غسيل أموال واختلاس محتمل مرتبط بمصرف لبنان المركزي. انما في الرد على الأسئلة، لم يذكر المكتب ما إذا كان سلامة مشتبهاً به، وأحجم عن التعقيب"، ليأتي الرد من قبل الحاكم شخصياً عبر تعميم تصريح له، وفيه "كل الادعاءات عن تحاويل مالية مزعومة قام بها إلى الخارج سواء باسمه أو باسم شقيقه أو باسم معاونته إنما هي فبركات وأخبار كاذبة لا أساس لها، وستكون موضع ملاحقة قضائية بحق كل من نشرها وينشرها بقصد التمادي في الإساءة ".

لاحقاً، حضر سلامة الى مكتب مدعي عام التمييز غسان عويدات، مبيناً انه قدم له "كل الأجوبة على الأسئلة التي حملها بالأصالة كما بالنيابة عن المدعي العام السويسري، وجزمت له بأن أي تحاويل لم تحصل من حسابات لمصرف لبنان أو من موازناته. مضيفاً، " أكدت للرئيس عويدات أنني جاهز دائماً للإجابة على أي أسئلة، كما احتفظت لنفسي بحق الملاحقة القانونية بوجه جميع الذين يصرون على نشر الإشاعات المغرضة والإساءات التي تطالني شخصياً، كما تسيء لسمعة لبنان المالية".

بالتوازي، غرّدت وزيرة المهجرين في حكومة تصريف الاعمال غادة شريم عبر حسابها على تويتر قائلة: "الارقام وحدها كفيلة باظهار الحقيقة، رياض سلامة ولتاريخه لم يقدم للحكومة تقريراً كاملاً عن حسابات المصرف مع انها استماتت لمعرفتها منذ اليوم الاول! التصريح بالحقائق كما هي بالأسماء والأرقام ينقذه وينقذ ما تبقى من البلد والا فالمحاكم الاوروبية والدولية بالمرصاد له ولكل المتواطئين معه".

هكذا، ظهر التناقض ساطعاً بين المسار القضائي والخيار السياسي. فبمعزل عن هويات الموجهين والمسربين برغم ما تبطنه المسألة من أجوبة ربما تكون شافية، الأصل ان يلتزم سلامة الاجابة على "الاستفسارات" سواء في بيروت أو في سويسرا، انما، المستغرب أن يتم ربط "الملف السويسري" بالصدام المبكر بين الحكومة والحاكمية. ففي هذه "المعمعة" المتواصلة منذ سنة ونيف صولات وجولات، ومن تجلياتها التعيينات التي قررتها الحكومة عينها لكل المراكز في السلطة النقدية، بعد ان "فشلت" في مسعاها لادانة الحاكم أو اقالته قبل انتهاء ولايته المستمرة قانوناً حتى منتصف العام 2023.

وليس خافياً أن الصدام ساهم في تسريع وتيرة الانهيارات. فقد تم تدشينه بالتضحية بمخزون الثقة الذي كوّنه القطاع المالي على مدى ثلاثة عقود متتالية، من خلال تعميم الشكوك بافلاس المصارف ومن ثم قرار اخراج لبنان من الأسواق المالية الدولية عبر "تعليق" دفع الدولة لمستحقات الدائنين، ثم تواصل بانهيار منظومة حماية النقد والمدخرات في
البنوك. يستمر نزولاً بدفع من عقم التفاعل "السلبي" بين الطرفين الذي أنتج إنفاق ما يربو على 5 مليارات دولار من احتياط العملات الصعبة لتمويل الدعم المتخم بحقائق الاحتكارات والتهريب عبر المنافذ كافة والى أسواق قريبة وبعيدة. وليس من آخر تجلياته تعريض الانتشار المصرفي اللبناني في الخارج الى مخاطر الداخل واخضاعه لانكماش حكمي، ربما غير قابل للتعويض، أو سيستلزم سنوات طويلة لإعادة بنائه.

 اذ يتجنب سلامة، حتى الساعة، الرد بدعاوى " التشهير" وطرح "استفسارات " مضادة بشأن حماسة بعض أهل السلطة لتحويل السؤال الى تهمة وتحويل التقصي الى ادانة، فإن ترجيح التعقل والتبصر في أحوال البلاد والعباد لم يعد خياراً، بل هو مسؤولية وطنية بامتياز. فالكل يدرك أن عزل مصرف لبنان المحتمل عن القطاعات المالية والأسواق في أرجاء العالم، سيقود "الأمن المالي" الى " جهنم " التقوقع الداخلي ومنظومته الى التفكك والتلاشي. فماذا سيبقى للناس الفاقدين أساساً للأمن الصحي والاستشفائي وللأمن الغذائي والمعيشي والرازحين تحت قيود تبدد مدخراتهم، والمهددين بالانتقال الى خانتي الفقر والفقر والمدقع، والحائزين وظيفة "عاطل عن العمل" التي تلوح لموظفي القطاع العام، بعد ان تفشت كالوباء في صفوف القطاع الخاص.